سهام القحطاني
«تحت رعاية التفاهة: يشنق الشعراء أنفسهم في زوايا شققهم الفوضوية»
-آلان دونو،ت -مشاعل الهاجري-
هل القيمة هي التي تصنع التأثير، أو التأثير هو الذي يصنع القيمة؟ وقد يختار الكثيرون الإجابة «القيمة» باعتبارها منتِجة للتأثير، وبالتالي فالتأثير هو حاصل للقيمة.
والقول السابق منطقي لكنه غير واقعي، فالواقع اليوم له طريقته في تشكيل هذه المعادلة وأساليبها التي قد تتنافي مع طبيعة المنطق المثالي.
وقديما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ولو كان المتنبي يعيش بيننا لأدرك أنه «قارئ للمستقبل» فما يحدث اليوم هو ترجمان صادق لقوله؛ فالجاهل اليوم بصيغ صفاته المختلفة هو الذي يعيش بذخ الشهرة والأضواء والأموال، فالجاهل اليوم هو القيمة التي تُفرض على الجميع ليصفقوا له ويرفعونه فوق الأعناق ويحولونه إلى وثن قديس.
في حين أن صناع الفكر الجادين يختفون قصرا في زوايا الظلمة ليأكل ويشرب عليهم الدهر، ويطويهم التجاهل والتهميش تحت أتربة وأغبرة الزمان.
هذا هو الواقع اليوم واقع الظلال العكسي فمن يملك التأثير يصنع القيمة.
واقع عكس النشأة فأصبح التأثير هو صانع القيمة، وأصبحت القيمة لعبة في يدّ التأثير يوجهها كيفما يُريد ووفق تلك العكسية اختلف مضمون معايير تشكيل القيمة، فاستعمرت الشكلانية معايير القيمة لتٌسيطر على مفاهيم معيارية مثل النجاح والقدوة إلى معايير تعتمد على البذخ بكافة أشكاله التي تسيطر عليه الأضواء، وبذلك أصبحت القيمة أسيرة بذخ أشكال الصوت والضوء، أسر كانت نتيجته ارتباط التأثير بالتفاهة التي تتبع أقدامها وغرائزها بدلا من التفكير.
بل قل إن التفاهة أصبحت فاعلا لنظام ثقافي يقود العالم ويتحكم في معايير صناعة القيمة.
ولعل كتاب «نظام التفاهة» للدكتور «آلان دوونو» قدم تصورا لهذا النظام الثقافي الجديد الذي تقوده التفاهة، فيبدأ بأن التافه يحظى بنجاح على أساس القيمة المجاورة «فقد لا يكون عالما لكن له علاقة بالعلماء، قليل الجدارة ولكنه كان يعرف أشخاصا ذوي جدارة كبيرة.. ليستطيع أن تكون له قدمان تحملانه من مكان لآخر»-بتصرف-
ولو تأملنا هذه العبارة سنصل إلى حقيقة واقع ارتقاء كل تافه إلى مراكز قوة الضوء والصوت، فوراء الارتقاء سلّم غائب في الظلمة الحالكة التي تغطي ما بعد قدمي كل تافه ليظل ممتدا وسط دائرة الضوء الصاخب الذي يخفي جهله وسطحيته.
فالتافه هو ستار «لمخطط ما» «فالإنسان التافه هو الشخص المعتاد الذي يستطيع نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم»-آلان دونو- ليتحول التافهون كما يقول إلى «جماعة مسيطرة..نظاما متكاملا».
فالتفاهة «تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلا من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري «إنها تحيلنا إلى أغبياء» -نظام التفاهة-آلان دونو-.
ولم يكن هذا حاصل نظام التفاهة تحول الجميع إلى صيغ متنقلة من الأغبياء، بل إضافة إلى ذلك كما يقول آلان دونو» أنه صار يعني سيطرة الأشخاص التافهين باعتبارها حالة سيطرة خلقتها الأشكال التافهة ذاتها، حالة سيطرة تُرسخ هذه الأشكال باعتبارها عملة للمعنى وأحيانا مفتاحا للنجاة» -السابق-
وبذلك سنجد أن نظام التفاهة يخلق للمجتمعات «أوثانا للتقديس» يرفعها فوق الجميع تُحيط بها الأضواء اللامعة وكلما اشتدّ لمعان تلك الأضواء اشتدّت الظلمة التي تخفي وجوه وأجسام الجمهور في رسالة للجميع أن هذا النموذج الملوث بالجهل والأمية والفضائح والانفلات هو رمز القوة في دلالاته المختلفة المال والشهرة والنجومية والتأثير، وهنا نجد أنفسنا أمام حرب خفية للدلالات لكل ما هو ضدّ النقاء والنزاهة والالتزام.
حرب دلالات لا تكتمل إلا بإسقاط المنافس من العلماء والمفكرين والمثقفين الذين يتحولون في عالم التفاهة إلى رسوم كاريكاتيرية لسحب قيمة التأثير من بين أيديهم ليظل الجمهور مقيدا بمفاصل عالم التفاهة عابدا لأوثانه.
تاريخ التفاهة بدأ مع السينما ثم بقية وسائل التأثير الأخرى المرئية منها خاصة فهي بالتدريج أسست هذا النظام من الصفر لينمو مع نمو أجيال يتحكم هذا النظام في تشكيل طريقة تفكيرها ومنظومة المعايير التي أسست قوانين أحكامهم على الأمور.
وهكذا أصبحت الأجيال الصاعدة مع نظام التفاهة جزءا من اللعبة لعبة «تحويل مجموع التافهين إلى رأس مال إلى سلعة تتحكم بها امبراطوريات الإعلانات التجارية.
هذا البذخ الذي قادته امبراطوريات الإعلانات والتسويق لمجموع التافهين في كافة المجالات لصناعة دائرة الضوء التي تحيط، أسقط أصحاب الرأي من مفكرين ومثقفين في بئر التهميش ونجحت في طردهم من معادلات القيمة والتأثير، لتتراجع أهمية القيمة كجوهر لنشأة التأثير، ويصبح التأثير هو المتحكم الوحيد في تنظير الجوهر والتحكّم في دلالاتها، ولا شك أن للمثقف دورا في إنجاح عملية الطرد تلك لأسباب عدة وهذا حديث آخر.