يُعد السرد في أبسط تعريفاته نقلَ التجربة الواقعية إلى القالب اللغوي، ومن هنا تتشعّب طرائق التعبير عن هذا الواقع؛ بناء على نوع التجربة التي يريد الناقل اتباعها، ومن هنا لا يعد كل نقل من الواقع إلى القالب اللغوي فعلاً سرديًا بمفهومه الأدبي؛ لأنه يفتقر إلى صناعة السرد، التي هي مزيج من القدرة على التعبير الداخلي، والخارجي، والموازنة بين الأجناس الأدبية التي تحمل تلك التجربة.
ومحمد علي علوان أحد الذين أسسوا تجربة القصة في المملكة؛ ليس على سبيل الكتابة الإبداعية فحسب، بل في طريقة التعبير السردي، والانتقال بالفعل الكتابي إلى عوالم التجديد، وبناء مستقبلٍ لجنس القصة في المملكة.
وسأتناول تجربة المحتفى به في هذه الليلة من جانبين أرى أنهما يُعبّران عن تجربة محمد علي علوان في بناء القالب القصصي، والجانبان هما:
1- المكان.
2- عتبة العنوان.
أولا: المكان:
يُوصف المكان في الفعل الأدبي أنه الحيز الذي تدور فيه الأحداث والوقائع، وهو بهذا قالب يُصنع قبل فعل الحدث؛ ليحتويه، ويستطيع أن يتناسب مع الأحداث والشخصيات، وحين الوقوف على تجربة محمد علي علوان نجد أنه تجاوز بالمكان مفهومه الضيق المبني على كونه بنايات أو شوارع أو غرفًا أو غيرها مما هو حيّز جغرافي، إلى أن يكون المكان فضاء يُعبّر به الكاتب -مع مجموع الأدوات السردية الأخرى- عن فكرة القصة، ويقوم الفضاء حينئذٍ بوظيفة أخرى تتجاوز وظيفة الاحتواء إلى غايات متعددة، تحكمه الفكرة.
يظهر في قصة الحكاية تبدأ هكذا الفضاء من خلال نظرة الهروب التي بدأت بها القصة «الريح تجوس خلال الرمل.. خلال الأشجار والشجر معرى من أوراقه.. الريح.. الريخ تخر الوجوه وجها ً.. وجهاً. تبتعد الشمس.. تختبي وراء غيمة والغيمة تهرب.. ترفع أطرافها.. تهرب. تجمع ما تبقى بها من قطرات تسقطها فوق البحر. تنفلت من أسار الغيمة الهاربة من هجير الصحراء قطرة تعيد الحياة.. تبعث النشوة في الأرض. تبث اللون الأخضر في ساق طلحة لم تزل».
الفضاء هو الهروب الذي بدأت به الشمس حين اختفت وراء غيمة، وخانتها الغيمة حين هربت لتلقي قطرات الماء التي فيها في البحر، وبخل تلك الغيمة بقطرة تعيد الحياة إلى هجير الصحراء، ففكرة الهروب يحكمها إطار الفضاء الممتد، في الصحراء القاحلة التي تشرق الشمس من شق ضب مات عطشًا، إن هذا الفضاء هو متخيل سردي صاغه الكاتب في هذا القالب؛ ليوافق فكرة القصة المبنية على علاقة طرفي الحياة (الرجل والمرأة) واتصالهما بالفضاء، فالصحراء تتسع، وتضيق في الآن نفسه، والسماء تبتعد، والشمس تدخل في بطن المرأة الحبلى، وغيرها من مظاهر الفنتازيا في القصة، ولكن كل هذا بأثر الشبع الذي يشعر به الرجل؛ لأنه أكثر من أكله في الليلة مما تسبب له بالتجشؤ، وزيادة الخيالات التي يرى أنها واقعية في طبيعة علاقة الرجل بالمرأة.
وأسهم في هذه الصياغة الفنتازية اهتمام علوان بأن يكون المكان فضاء يصنع القصة، وليس مكانًا تدور فيه أحداث القصة، وهو ما يجعل المرتكز في جنس القصة عند محمد علوان هو أنسنة المكان، وإضفاء السلطة عليه، وتختلف هذه السلطة باختلاف الفكرة، غير أنها سلطة منحها الكاتب إلى المكان.
ففي قصة العسل الأسود من مجموعته القصصية دامسة، تمنح الذاكرةُ الساردَ كلَّ شيء: الدفء والأمان، والراحة، لكنها لا تظهر، فيكون المكان سيد الموقف الذي يُسيّر الأحداث والزمان، المكان بوصفه سلطة قويّة، ففي لحظة طِهارة الشخصية المحورية في القصة (مسعود) يجثم المكان على كل شيء، ويتكثّف حضور المكان بوصف طقوس لحظة الختان في قريته، وقرع الطبول، والرقص، ونظرات الناس، ووصية أبيه له لا تخذلني... كل هذا الحشد يصنعه المكان، يسير بالإيقاع إلى السماء ويخفت مرة أخرى، نظرات والده وأعمامه وخاله وأمه تضيّق عليه المكان، كل هذا التكثيف بسطه المكان في القصة، وهو ما يبرز اهتمام محمد علي علوان بصناعة المكان بشكل لافت، يمكن أن يكون جزءًا من تجديد القصة السعودية.
وحضور المكان في قصص محمد علي علوان؛ بشكل لافت يجعل دراسة المكان في قصصه تتجه نحو البحث عن كونه علامة، علامةً لما هو أكبر من حيز المكان، وهذا ما يظهر في كثير من قصصه، وتطوّر اهتمامه بالمكان مقارنة بين مجموعته الأولى (الخبز والصمت) وحكايته الأخيرة (تهلل) وهذه الرحلة الطويلة بين عامي 1977م 2020م هي رحلة المكان، ففي التجربة الأولى (الخبز والصمت) تعبير عن المكان بوصفه شيئا يصنع الإنسان ويؤثر فيه، أما تهلل فهي حكاية الذاكرة الطويلة، كما سيأتي في الحديث عن عتبة العنوان.
ثانيا: عتبة العنوان.
العنوان هو أول العلامات النصية التي تقابل المتلقي، وهو أحد أبرز علامات الدراسة السيميائية؛ لأنه علامة تختزل ما في الكتاب، والاختزال هنا لا يعني اختصار الأفكار، وإنما تكثيف أفكار القصص ليكون العنوان معبرًا عن شيء فيها، ويحمل روحًا منها، وهو العتبة الأولى التي يُدخل إلى النص من خلالها؛ ولذا أهمية العناية به، وصياغته ليست اعتباطًا، أو أمرًا يسيرًا؛ إذ العنوان إبداع لا ينفصل عن إبداع كتابة القصة، ومحمد علي علوان، يظهر إبداعه في صناعة عنوانات مجموعاته القصصية، من حيث دلالتها على مرجعية القصص في المجموعة، فمثلا مجموعة: الخبز والصمت هي قصص تحاكي الواقعية في مرجعيتها البنائية، ويؤكّد ذلك أن المعادلة التي أطلقها علوان بأن الخبز أثمن من كل الأشياء هي فلسفة واقعية، فالخبز واقع والصمت واقع وهما معادلان موضوعيان لمعاناة الحكاية السردية في المجموعة.
ونلحظ التطور في التخلي عن اللفظين في مجموعات قصصية أخرى مثل مجموعة دامسة 1998م، وهاتف 2014، وإحداهن 2019، وهذا اللفظ الواحد الذي حمل المجموعات المتوالية يعطي عمق تكثيف فكرة العنوان عند الكاتب؛ لأنه في مجموعته الثانية المعنونة الحكاية تبدأ هكذا الصادرة عام 1983، وطائر العِشا الصادرة عام 2020، لا يظهر العطف بين كلمتين كما في الخبز والصمت، بل هما مركبان.
فعتبة (الحكاية تبدأ هكذا) تعطي مفارقة في التلقي، مفارقة في أن الحكاية تبدأ من هنا كما اعتادها المتلقي، وليس هكذا كما أرادها الكاتب، وهنا تكثيف يشير إلى اكتمال الحكاية قبل البداية في سردها، فالكاتب يعيد ترتيب الواقع من خلال السرد، فالحكاية موجودة ولكن قد لا نعرف كيفية البداية وليس زمنها، فالكاتب ربما يريد أن يشير إلى أن كل الحكايات موجودة ولكن نغفل عن معرفة كيف بدأت، وليس متى بدأت.
ولأن الكاتب مسكون بالمكان، وعمق المكان، وتجربة المكان لديه أثيرة، كان عنوان حكايته الأخيرة (تهلل) وتحته عنوان فرعي (حكايات الجبل) وهو يشير إلى الجبل الواقع في جنوب المملكة، وما يكتنف ذلك الجبل من الحكايات، والقصص، فالجبل هو الذي يحكي، ويسرد هذه الحكايات بشموخه، وتاريخه، وامتداده، وليس الذين مرّوا بهذا الجبل، ورغم أن علوان كسّر شكل كتابته في هذه الحكاية فإن عنوان الحكاية يشير إلى تكسير في مفهوم السرد الذي يقوم على الحركة والتدفق، وهو لا يناسب الجبل الثابت القائم الذي لم يتغيّر، فالسارد يمر بمتغيرات تجعله متحركًا يناسب المسرود، ولكن أن يكون السارد ثابتًا فهذا جزء من تغيير نمط الكتابة عند علوان.
والذي أسهم في تغير نمط الكتابة عند محمد علي علوان ليس اكتمال تجربته السردية، فهي مكتملة منذ البداية وقبل الكتابة، ولكن ما أسهم هو هيمنة المكان على نمط كتابة عند محمد علوان، ونموه شيئًا فشيئًا داخل البناء القصصي المتراص إلى أن يكون
** **
- د. سلطان الخرعان