الثقافية - محمد هليل الرويلي:
تشكل التقنية ضرورة حتمية لاستخدامها في الحياة اليومية، ولا يتخيل المرء أن يستغني عنها بشكل أو بآخر، وقد دخلت التقنية في كل شيء، في البيت والعمل، في التواصل والتعليم والتجارة وكل حاجات الفرد، فبضغطة زر تصل إلى المعلومة، وبأيقونة إلكترونية يصلك طلبك من مأكل أو سلعة أو حتى تحويل مالي من المصرف. وهو ما أشارت إليه الباحثة الأستاذة حنان محمد الناصر (طالبة ماجستير في قسم اللغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز)، مضيفة بأن التقنية لم تتوقف عند هذا الحد، بل حتى الأدب قد اقتحم هذا العالم الافتراضي.
وقالت في لقاء علمي ضمن فعاليات اللجنة الثقافية (جامعة الملك عبد العزيز)، بعنوان: الأدب الرقمي في العالم العربي، الواقع والمستقبل. وقدمته أستاذ الأدب والنقد الحديث في الجامعة، أ. د. (أشجان محمد هندي): إن مصطلح الأدب الرقمي يثير تساؤلات عدة، حول ماهيته، وهل يمكن تطبيقه، وهل سيلغي وجوده الأدب المكتوب أو يهمشه، ونجد إجابات عن هذه التساؤلات، بل وعن غيرها مما قد يثير دهشة المتلقي العربي لمثل هذا الموضوع الجديد الشيق.
وبيّنت «الناصر» في تقريرها أن أبرز ملخص اللقاء تمحور في التالي: إن التسليم بوجود هذا الواقع الافتراضي في شتى أمور الحياة أمر لا شك فيه، لكن أن يكون هناك أدب رقمي يُنتج عبر هذه التقنية فإن الإنسان يجد نفسه بين فئتين: فئة رافضة لهذا النوع وتجده يهدد الأدب الورقي، وفئة أخرى تقبل به وتجده عابراً للتصنيفات القديمة، وفيه جدة ومتعة فهذه الكتابة لا تقوم على التصنيفات القديمة للأدب، بل تتداخل الأجناس الأدبية ليختلط فيها الشعر بالرواية بالمسرح بالموسيقى بالصورة، ولذلك لابد لهذا النوع المتفرد من الأدب أن تكون له نظرية نقدية جديدة خاصة به، لأنه لا يحتوي على الكلمات فحسب، بل إن الكلمات أصبحت جزءاً من النص لا أكثر.
والإنسان عدو ما يجهل، فكل مستحدث يواجَه بموجة من الرفض، وما قصيدة التفعيلة عن ذلك ببعيد، فقصيدة التفعيلة التي استحدثتها نازك الملائكة هوجمت بشدة، وكذلك حصل لقصيدة النثر، وفي وقتنا الحاضر نرى التمازج بين قصيدة الومضة و(ق.ق.ج) قد هيأ الطريق لوجود أدب رقمي اليوم.
وتابعت: كان المحور الأول الذي ناقشته
«د . أشجان» قضية صعوبة الفصل بين مصطلحات الأدب الرقمي، وأرجعت السبب إلى تعدد المصطلحات وتداخلها لدى الغرب والعرب، إضافة إلى حداثة هذا النوع من التأليف، فللقصيدة الرقمية أربعون اسماً من ضمنها: قصيدة الكمبيوتر، الشعر التشعبي، شعر الإنترنت، الشعر ثلاثي الأبعاد، شعر الفيديو، القصيدة التفاعلية، وغيرها، وتوقفت الدكتورة على ثلاثة مصطلحات مهمة شائعة في الاستخدام النقدي العربي، الأول: القصيدة الرقمية الإلكترونية، الثاني: القصيدة الرقمية، الثالث: القصيدة الإلكترونية التشعبية.
فالشعر الرقمي الإلكتروني هو جنس أدبي تتم فيه دمج اللغة الموضوعة مسبقاً في وسيط إلكتروني جديد، وينتج الشعر فيه بواسطة الآلة وليس البشر، فلا يطلق على القصائد الممسوحة ضوئياً أنها شعر إلكتروني، وتشير د. أشجان إلى نقطة جوهرية، وهي أن الأدب الذي يستخدم الوسيط الرقمي يختلف عن القصيدة الرقمية التفاعلية، إذ إن التفاعل مع المتلقي شرط رئيس لاعتبار القصيدة رقمية.
وأضافت الباحثة وهي تستعرض حديث د. أشجان هندي، حول الشعر العربي الرقمي التفاعلي: إن الشعر العربي الرقمي التفاعلي يطلق على نوعين هما (القصيدة متعددة الوسائط، والقصيدة التشعبية)، أما متعددة الوسائط فيبنى فيها النص بواسطة وسائط سمعية وبصرية ورسومات وعزف منفرد ومقاطع فيديو، وهذا النوع يسمح للمتلقي بالتفاعل معه لكنه يظل محدوداً، لأن المتلقي لا يعيد إنتاج النص، ولكنه يستطيع مثلاً تكبير الصور أو تصغيرها، وتقديم العرض أو تأخيره وغير ذلك، أما النوع الثاني وهو القصيدة التشعبية فيسمح للمتلقي بالتدخل في إنتاج النص، ويعرض على الشاشات الذكية، ففي داخل هذه القصيدة عُقَد تنقل المشاهد إلى صفحات أخرى، فقد يصعب عرض مثل هذا النوع من القصائد على شاشات كبيرة الحجم كالسينما مثلاً، لكن الفكرة غير مستحيلة بشرط أن يزود جمهور المتلقين بأجهزة ريموت كنترول، فالنمط التشعبي إذن يبنى بطريقة أكثر تعقيداً، ويحتوي على فنيات عالية متشابكة في التكوين، وتتداخل العناصر التي ربما تبدو غير متجانسة لكنها تشكل مزيجاً، يصنع مشهداً جميلاً يتغير باستمرار حسب المتلقي، ويبرز اسم الشاعر العراقي (مشتاق عباس معن) على الصعيد العربي كأول من أنشأ قصيدة تشعبية في عام 2007م.
وزادت: ثم انتقلت د. أشجان إلى المحور الثاني وهو الجانب التطبيقي، واختارت قصيدة (بصيرة الأمل) للشاعر محمد حبيبي التي أنشأها عام 2018م، وسبقتها قصيدتان على نفس النمط، وقد انتهج الشاعر نهج القصيدة الرقمية متعددة الوسائط، فقد دمج الوسائط البصرية والسمعية المختلفة داخل مشهد كلي، يتم المعنى من خلال هذه الوسائط، وانقسمت الوسائط في هذا العمل إلى سمعية وبصرية، فالوسائط السمعية تنوعت بين عزف منفرد، وأغان لفنانين كبار كعبادي الجوهر وفيروز ووديع الصافي، إلى جانب خلفيات أصوات أطفال وزخات مطر وتغريد عصافير، واشترك المتن اللغوي بالوسائط البصرية التي كانت على هيئة أخطاط مكتوبة باليد أو على الأسفلت أو على بالونات، وأخرى منحوتة على جذع شجرة وغير ذلك.
وخلص التقرير الذي أعدته الباحثة:
أنه في المملكة العربية السعودية في التسعينيات أصبح هناك حراك ثقافي يزداد شيئاً فشيئاً، فقد أنتجت الدواوين الصوتية للشعراء مثل سلسلة بوح التي أنتجها نادي حائل الأدبي الثقافي، فمثل هذه الدواوين كسرت المألوف المقروء، واهتمت كذلك الأندية الأدبية بتقديم أمسيات شعرية مصاحبة للعزف أو عرض صور فنية تشكيلية على خلفية على خشبة المسرح تكون منسجمة مع القصيدة.
أما عن الرواية الرقمية في العالم العربي فيظهر اسم الكاتب الأردني محمد سناجلة، وهو أول من نشر رواية رقمية في عالمنا العربي، كان هذا في روايته (ظلال الواحد) عام 2001م، وتلتها رواية (شات) في 2005م، ورواية (صقيع) في 2006م، ورواية (ظلال العاشق) في 2016م، وأخيراً جاءت روايته الشهيرة (تحفة النظارة في عجائب الإمارة) في 2016م، وهي موجودة في مدونة بهذا الاسم، وهي رواية رقمية تفاعلية يشارك في إنتاجها المتلقي.
يقول سناجلة: إن الرواية الرقمية تنحصر في نوعين: الرواية الترابطية والرواية التفاعلية، ويقول إن الترابطية تستخدم نصوصاً متفرعة ومؤثرات رقمية مختلفة وغير ذلك، ولكن من يكتبها هو شخص واحد، في حين أن التفاعلية تستخدم المؤثرات نفسها لكن يشترك في تأليفها عدة مؤلفين، وربما تكون مفتوحة لمشاركة القراء في كتابتها، بما يذكرنا برواية (الويكي) التي تتبع لصفحات خاصة لها برمجة معينة، يدخلها أدباء محددون، يأتي أحدهم ويطرح فكرة وقد يكملها غيره وهكذا.
مشيرة إلى أن السناجلة يطلق على روايته (تحفة النظارة) اسم الرواية الواقعية الرقمية، لأنها -كما يقول - تعبر عن انتقال الإنسان من واقعيته إلى افتراضيته، فيجعل العالم الرقمي هو عالم واقعي مُعاش.
هذه الرواية فيها تناص واضح مع كتاب (تحفة النُّظار في عجائب الأمصار) الذي كتبه ابن جزي الكلبي، الذي يصف رحلة ابن بطوطة خلال 30 عاماً قضاها متنقلاً بين العالم، وهنا السناجلة يستخدم الأسلوب ذاته ليصف رحلة لابن بطوطة إلى مدينة دبي، واصفاً حضارتها ومظاهر حياتها وطبائع أهلها، لتصبح الرواية من أدب الرحلات، وتقدم تقريراً عن لقاء ابن بطوطة بحاكم إمارة دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي استقبله وأجزل له العطايا، وتنتهي القصة بنهاية قابلة للتغيير بطلب من مؤلف الرواية حسب المدونة، حيث توجد روابط لكتابة مقترحات للقصة، أو التواصل مع ابن بطوطة أو مراسلة المؤلف، وقد واكب د. محمد نجيب التلاوي، الأدب الرقمي بنقد تفاعلي عبر نفس المدونة، إذن فالإبداع سابقٌ للنقد كما ذكرت ذلك د. أشجان.
واختتمت الباحثة الناصر التقرير بتساؤل في نهاية اللقاء طرحته الدكتورة أشجان الهندي عن مستقبل الأدب الرقمي: هل يكتسح الأدب الرقمي الأدب الورقي، وهل ستصبح كتاباتنا على الورق من آثار الماضي؟