مفتتح عن الإشكالية والمنهج والمدونة:
إذا كان علي حرب يؤكد أن «مشكلة المثقف لم تعد مع الدولة والمجتمع، وإنما هي مع أفكاره، أو مع نمط العلاقة الذي يقيمه مع ذاته وهويته» وهو بذلك يشير إلى أهمية أن يصبح «المثقف» مادة الكلام، ومرجع الخطاب؛ فمعظم المثقفين العرب لا يزالون -كما يرى - «غارقين في سباتهم الإيديولوجي، لا يحسنون سوى نقض الوقائع لكي تصح مقولاتهم أو نظرياتهم.إنهم يرون العلة في الواقع لا في الأفكار أو في أنماط الفهم أو في طريقة التعامل مع الحقائق.من هنا سعيهم الدائم لمطابقة الوقائع مع مقولاتهم المتحجرة أو لقولبة المجتمع حسب أطرهم الضيقة أو تصنيفاتهم الجاهزة.»
ومع أن مساءلة المثقفين لرؤاهم وتصوراتهم ونقدها هي عملية على غاية كبرى من الأهمية، إلا أنني أعتقد أيضا أن سؤال «النسقيات» التي يمارسونها في سلوكياتهم هو على درجة من الأهمية لا تنكر، فالعملي مصداق أكيد لجماليات النظري، أو علامة من علامات ضعفه، وانحداره وتهافته، وخاصة حينما يكون ذلك في إطار علاقات العمل الثقافي.
وبدءا فإنني أفضل في هذه الورقة استخدام لفظة «الكاتب» وليس «المثقف» لأن الأولى تحيل إلى الحقيقة والموضوعية، بينما تحيل لفظة «المثقف» إلى نوع من العماية في تحديدها، وتشير كذلك إلى نوع من التسلطية العنيفة النرجسية التي توهم بعض الكتاب بتصور خاص عن أنفسهم. وتسهم في رسم صورة تخييلية تفاقم من بعد الكاتب عن مساءلة نفسه، وسلوكياته.
كما أن من المهم الإشارة إلى أن القراءة تتجه نحو زاوية واحدة من الخطاب، وهو ذلك الخطاب الخاص «بالموقف الاتصالي» النسقي الذي يكون الكتاب أحد طرفيه؛ وبالتالي فالورقة تستبعد مواقف الجمهور الاتصالية، ومواقف بقية القراء، وإشكالات المواقف الاتصالية المتوترة والهادئة بين المحرر والرقيب، وهي موضوعات جديرة بالتأمل والقراءة، والدرس، بيد أنها خارج حدود ما اختطته الورقة لنفسها.
وإذا كانت الصحافة الأدبية وبعض محرريها في مواجهة الكتاب في ليلهم ونهارهم، وهم أقرب الناس إلى رسم صورة بينة عن نماذج بعض الكتاب في تعاملهم، وقدرتهم، وصدقهم، وتطبيقهم لرؤى الموضوعية والإنصاف، والإيمان بالتعددية، واحترام الرأي الآخر؛ فإن الاختيار هنا يبدو لي على درجة كبيرة من الاستحقاق الذي يمكن من رسم صورة صادقة، ومتنوعة إلى حد بعيد.
ويأتي اختيار صفحات «الأدب والثقافة» في صحيفة الجزيرة لحضورها المتوازن في العقود الماضية؛ فلم تنحز لطرف على حساب آخر، ولم تدخل في ثنائيات الاستقطاب التي كانت حاضرة آنذاك، وهو ما يعرفه المتابعون، ويعلمه المنصفون. إلى جانب أن المشرف على تحريرها عاش وعايش الأجواء المحيطة بمواقف الكتاب وردات فعلهم، وخلافاتهم، وكتب عن ذلك مدونة غنية ثرية في هذا الميدان، التزم فيها جانب الحياد؛ فلم ينتصر لطرف على حساب آخر. يقول إبراهيم التركي بعد أن عاد عن استقالة سابقة قررها:»ثم اضطر للتراجع مع وعد بالمراجعة، وأيقن أن دوره سيكون ذا أهمية في تلك المرحلة «الحساسة» من زمن الصحوة إذا استطاع التوازن والموازنة بين اندلاق وانغلاق، ومكث دون إغراء مادي وبخسائر معنوية، وأيقن أنه قدر يفضي إلى قدر»
وستنطلق الورقة منهجيا من خلال الاستفادة من «النقد الثقافي» الذي كرسه ونظَّر له عبدالله الغذامي، ولكنها تختلف عنه أيضا في أن الورقة تقوم على «نصنصة» المواقف الاتصالية بين المحرر الأدبي، وبعض الكتاب، ودراستها من خلال عملية تحوير للنسق الظاهر، والمضمر اللذين أوردهما أ.د. عبدالله الغذامي للنصوص النسقية، حينما تحدث من خلال تعارض نسقين أحدهما ظاهر والآخر مضمر، والمضمر ناقض، وناسخ للمضمر، دون حاجة إلى شرطيه الباقيين، وهما جمالية النص، وجماهيريته. على أن «المضمر» في الورقة هي دعاوى الكتاب النظرية المفهومة سلفا، والظاهر تعاملاتهم العملية التي أشار إليه إبراهيم التركي.
إن الورقة تنطلق من قراءة مواقف بعض الكتاب العملية مع المشرف الثقافي لصفحات الأدب والثقافة في صحيفة الجزيرة، وهي مواقف نسقية حينما نتأملها، فهي تضمر نسقا تعدديا متقبلا في مفهومها، كما هي ادعاءات الكتاب دوما في الدعوة للتعددية، واحترام الرأي الآخر، ولكنها تقدم نسقية مناقضة تماما لهذا الادعاء الشعاراتي حينما تواجه الاختبار العملي الدقيق لسلامة ادعاءاتها، ولا مراء أن النسق الذي يتجسد في «العملي» أكثر خطورة من النسق «القولي» أو «المكتوب»، وفي كل من التشوه ما فيه!
كما أن الورقة تفيد من بعض رؤى «علماء النفس» في رسم الشخصية النرجسية التي تشير -بعيدا عن دلالاتها التاريخية الإغريقية- كما يراها «برستن» إلى أنها :»الاهتمام أو التركيز على الذات» ومن خلال ما عدده «كيرنبرج» لها من إحدى عشرة صفة واضحة للنرجسية المضطربة، منها :الاستغراق في الشئون الذاتية، والهدوء المصطنع الذي يغطي تشويها عميقا في العلاقات مع الآخرين، واجتماع العظمة مع الشعور بالنقص، إلى جانب استغلال الآخرين، وعدم رحمتهم، والانسحاب النرجسي، والضمير القابل للرشوة والاستعداد لتغيير القيم بسرعة كسبا للمعروف والفضل»
وبالتالي فالورقة توائم بين رؤيتي «الظاهر والمضمر» من حقلين مختلفين، هما «النقد الثقافي» عند عبدالله الغذامي، ورؤية «سالمان واندرسون» لمظاهر اضطراب الشخصية النرجسية لمفهوم الذات لديها، من خلال»الظاهر، والمستتر»، حيث الظاهر تضخم لاعتبار الذات، والعظمة والتكبر، والإحساس بالاستحقاق، والمستتر حيث الحساسية المفرطة غير المكبوحة، ومشاعر الدونية والتفاهة والضعف، والسعي المتواصل وراء القوة والمجد، وكذلك رؤيتها «للأخلاق والمعايير، والمثل» ففي الظاهر: حماس واضح للأمور الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والجمالية، والمستتر: الافتقار إلى أي التزام حقيقي: حيث الضمير القابل للرشوة والفساد . وهي رؤية لا تنطبق على كل الحالات هنا، ولكنها يمكن أن تكشف جانبا من آليات عمل الأنساق المضمرة لدى بعض الكتاب في تعاملهم مع الصحافة الأدبية! وربما تشير إلى تفسير نفسي قد يضئ الطريق هنا أمام هذه المواقف، ولا يعني ذلك بالطبع اتهاما لشخص، أو تشخيصا لحالته، فلربما كانت حالات نقع فيها جميعا دون أن ندري! والهدف الوصول إلى عيوبنا النسقية في تعاملاتنا التي تشكلها داخلنا أنساق مضمرة قد نعيها أو لا نعيها.
-الكاتب النرجسي :
يشير إبراهيم التركي إلى جملة مما يمكن أن يعد ضمن التشكلات النرجسية عند بعض الكتاب، إذ يشير إلى لقاء صحفي جمعه بأديب كبير، رأى فيه هذا الأديب المشهور اللقاء أن أحد مؤلفاته يتفوق على ما كتبه طه حسين، وبعد أن نشر اللقاء في الصحيفة، لام بعض اللوام، ليتصل به الأديب الكبير:» نافيا وطالبا منه النفي، فلم يستجب، وأكد حرفية ما قاله استنادا للتوثيق المسموع والمكتوب، ورفض الاعتذار عما لم يقترفه من تصحيف، فلجأ الضيف إلى رئيس التحرير بخطاب مكتوب نشر على عدة أعمدة في «عزيزتي الجزيرة» مكذبا أنه قد قال ما قال، وأفهمه أستاذه أبو معتصم «محمد بن عباس» ألا ضير عليه لاقتناعه بصدقيته ورغبته وفي الآن ذاته بترضية الشيخ، وماذا بمقدور شاب غير أن ينيب عنه أبا الطيب ويقول بلسان الحال والمقال:»فما لجرح إذا أرضاكم ألمُ»
ومن خلال ما سبق تبدو حالة النسق الظاهر والمضمر في أظهر صورها من خلال النقد الثقافي، حيث التناقض بين «الظاهر» المنشور الكاذب المزيف، و»المضمر» الذي يكشف الحقيقة، ويضطر الكاتب فيه إلى أن يعود خاسئا إلى ميدان الواقع الحقيقي، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالمحرر، والإساءة إليه؛ فليس هنا اعتبار إنساني أو أخلاقي! إنها حالة الانفصام بين الظاهر الذي يدعي الفروسية والإنصاف، وفشل هذا الادعاء أمام اختبار الحقيقة وسؤال المواجهة المكشوفة!
وهي في ضوء التحليل النفسي حالة الخذلان والضعف التي تشكل النرجسية الكتابية، حيث «الادعاء الظاهر، والتكبر وادعاء الاستحقاق، ومشاعر الدونية والتفاهة والضعف» كما يرى «واندرسون».
ولعل من الغريب هنا أن النرجسية هنا تستند لدعائم مؤسسية تسهل لها الكذب والظلم؛ وفق ممارسة الانحناء للاسم، وطمس الرسم، والوسم؛ ترضية للتخييلي المخادع، وبناء للذوات الهشة التي تبني ذاتها ليس من خلال مريديها فقط، بل ومن خلال المؤسسة ورئيسها الذي يحل الموضوع بالاتكاء على الجانب الأضعف! وذاك ربما يعني أن حالة المعجبين أو المريدين ليست حالة فردية بل تتحول إلى حالة رسمية مؤسساتية ربما يكون لها حسابات أخرى، ولكنها حسابات غير موضوعية هنا بالطبع. إنها حسابات العربي العربي الأول الذي يشرب ماء، ويشرب غيره كدرا وطينا، لأنه يمهد للظلم، ويمارسه مهما كان ضرره على الآخرين؛ فهم:
بغاة ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا
وإن أورد صاحب جمهرة أشعار العرب البيت على رواية :»نسمى ظالمينا وما ظلمنا»، فالقصيدة ونفَسَها لا يجعل الباحث يطمئن إلى هذه الرواية.
وتأخذ النرجسية أحياناً طابعاً رافضاً للاختلاف والتنوع، نرجسية تمزج بين النص والشخص، وتكرس مبدأ «إذا لم تقبلني كلي»؛ فسأرفضك «كلك»ويمثل موقف الشاعر سعدي يوسف مثالا لذلك، حيث يستكتبه المشرف على صفحات الأدب والثقافة؛ ليكتب في الصفحة الأولى في الملحق، ويمتد بعد ذلك حبل الود بينهما، ويلتقيا في القاهرة عام 1996م، ويهدي المحرر الشاعر نسخة من كتابه:»سفر في منفى الشمس» ويلحظ المحرر الثقافي بعد هذا الإهداء تحولا كبيرا من جانب الشاعر، لم يدر له تفسيراً، حتى تذكر أنه أورد مقطعا من قصيدة للشاعر الكبير في كتابه المهدى، وفيه نقد حاد لنص الشاعر دون ذكر اسمه، وهنا يعي المحرر أن هذا الموقف كان سبب التغير الكبير الذي حصل بعد ذلك، والسبب أيضا في أن يوقف سعدي يوسف نشر مقالاته في الملحق بعد ذلك، أي بعد قراءة نصه منقودا في كتاب آخر للمحرر الذي يقول:» فالنص لسعدي يوسف نفسه رغم عدم الإشارة إلى اسمه إذ جاء عرضا في موقف أن تقاد، وهو ما لم يهن وقعه على الشاعر اللامع، وربما ظن الإهداء مقصودا لإطلاعه على النقد، ولو درى أن صاحبكم ذو ذاكرة غيرِ عذراء مثلما هو مجامل لا يسره إزعاج تلميذ بله أستاذ لربما عذره أو حاوره أو تجاهل تلك الإشارة؛ فلكلٍ الحق في قبول ورفض ما يشاؤه من كتابات وأفكار وإبداعات؛ فلسنا مقدسين ولا نصوصنا مقدسة، وخسر صاحبكم من ساعته علاقته برمز بارز.»
إن حالة استكتاب الصحيفة لسعدي يوسف هي حالة من حالات التقدير والتكريم بلا شك، ولكنها تتوارى تماما، حين يمس النص، حيث لا مجال في الحالة «السعداوية» للفصل بين تكريم الشخص، ونقد النص، وهي حالة من حالات النسقية النرجسية التي تعلي من نصها ليكون خارج إطار المختلف على فنيته، أو قيمته. ويكرس رؤية النص هو الشخص، والشخص هو النص. وإذا كانت التجربة الشعرية الحديثة تتماهى -كما تزعم- مع الحالة الإنسانية المشظية، وتناصر الحق والخير والجمالـ، وتفيد من كل رأي؛ فإننا هنا أمام حالة نرجسية تريد الإصغاء والترنم بجماليات الشعر فقط:حيث يصبح الدهر بناسه مرددين منشدين فقط! على درجة تتجاوز غنائية المتنبي:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
ولم تكن الحالة «السعدية» هي المثال فقط على حالة التضخم النرجسية، بل إنها تمتد وتنمو لتكون المقاطعة والشكوى أيضا إلى رؤساء التحرير، وإلى المحاكم، بل وإلى وزارة الداخلية أيضا؛ انتصارا للذات، وقمعا لأي رأي مختلف، ورؤية مضادة. يقول التركي :»ومثيله آخر قرأ مقالاً انتقادياً للمجلة الثقافية من كاتب كبير نجله ولم نجزع من ملاحظاته التي عددناها توجيها جميلا لنا، لكن صاحبنا ظن أنه المعني بفقرة منها فعتب بل غضب، وتوقف عن النشر»
فهل يمكن هنا أن نقول إن مثل هذا التوقف هو ما يسميه»كيرنبيرج»الانسحاب النرجسي.
وهي حالة تستحضر صنفا آخر من الكتاب المقاليين الذين يرفضون أي تعديل أو حذف في مقالاتهم، وعدم الحوار حول ذلك، إذ يورد التركي مقارنة بين موقف إيجابي متقبل لمحمد العلي -سيرد بعد ذلك -ويقارنه بموقف بعض الكتاب الأقل شأنا، الذين لن يرضوه أبدا لو حدث معهم ؛ حيث عهد -كما يقول التركي- «في كتاب آخرين أقلَ شأنا مَن يرفق مقاله بعبارة:لو حذف سطر فلا تنشروه؛ فكيف سيكون الموقف معه؟بالتأكيد سيكون صعبا، وقد يأسف على موافقته على الكتابة مع من لا يحترم قدسية حروفه.»
إن النظرة النرجسية للنص عند صاحبه، تتحول أحيانا إلى نوع من القمع للمختلف، والاتهام للمحرر وصحيفته؛ حيث تشير التجربة الصحفية إلى نماذج من هذه الحالات، يقول التركي:» قابله رمز صحفي كبير، فعاتبه على ما نشر ضده في صفحاته، وإذ لم يذكر أن قد مر به شيء يمسه فقد تساءل أين؟ومتى؟ وبقلم من ؟فأجاب : إنها جاءت مضمنة مستترة ولا ذكر لاسمه لكنه يعرف أنه المقصود بها؛ فحمد صاحبكم ربه على العافية.»
وهنا يمكن أن نرى بعضاً مما رآه «واندرسون» سابقا في صفة من صفات النرجسية، تتعلق من حيث «الظاهر» بتضخم لاعتبار الذات، والعظمة والتكبر، والإحساس بالاستحقاق، و»المستتر» حيث الحساسية المفرطة غير المكبوحة، ومشاعر الدونية والتفاهة والضعف»
وهي حالة من حالات التوحد مع النص، وتحوله إلى حالة من حالات العِرْضِ عند العربي الأول، فما يمس النص يتصل فورا بقيمة الشخص، وهو ما يصل أحيانا بالاختلاف في الكلمة إلى المحاكم دون بينة على إساءة، أو اتهام بين؛ فحين يكتب التركي مقالا عن بعض مظاهر السلبية، ومنها استغلال الكاتب لموقع، ووقع قلمه لتحقيق أهدافه الشخصية، يقول :» ومع أنه لم يسم أحدا إلا أن كاتبا تخيل نفسه المقصود، فهاج وماج وابتدأ في سلسلة من المقالات نواها ثلاثين ثم اكتفى بثلاثة دون أن يعلم سبب وقوفه سوى ما قيل له عن عدم رضا رئيس تحرير الصحيفة بعدما استوعب الحالة( ولم تكن الجزيرة على أي حال). توجه الكاتب نحو شخص صاحبكم؛ فسبه بل شتمه، ورغم كونه في مركز جيد بمعهد الإدارة حينها، ويحمل شهادة عليا فقد ادعى أنه موظف أرشيف مهمش لا وزن له وأنه شؤم على الصحافة، ونحو ذلك من موجع القول وسيئه وكاذبه»
ويقول في موضع آخر:»وفي مناسبة أخرى كتب أستاذ أكاديمي ينتقد شخصية أكاديمية في عمل علمي فقامت الدنيا، وسعينا لإيضاح موقف مبدئي في إتاحة النشر ما لم يحمل تجنيا شخصيا، أو يمس ثوابت قاطعة دينية وسياسية ولكن أنى لنا أن نقنع من يرى نفسه ضمن الثوابت.
وشكانا كثر على أساتذتنا رؤساء التحرير الذين تعاقبوا على الجريدة، وكان دورهم تهدئة الخواطر؛ فهم يقدرون مسؤولية الكلمة بدءا وعدم إخضاعها للمزاج الخاص، مع اقتراح التواصل معهم لإيضاح المشكل الذي ظُنّ إساءة.
وتجاوز آخرون فرفعوا علينا قضايا أمام مختلف الجهات الرسمية، وكان دورنا إعداد الردود المضمنة وجهات نظرنا في القضية، وتوقفت القضايا عند هذا الحد.»
ولم تكن هذه المواقف حالة خاصة بكاتب مبتدئ، أو شاعر مقبل، بل كانت ممارسات لأسماء كتاب لها حضورها، وتميزها، يقول إبراهيم التركي عن بداياته في الإشراف على صفحات الأدب والثقافة :»ما زال في بداياته، والرسالة مذيلة بتوقيع كاتب وشاعر له اسمه ووسمه، وبدل أن يحتفي بها بصفتها رافدا له وجد نفسه أمام استفهامات بلا إجابات؛ فقد كانت صفحة كاملة بخط اليد مملوءة بالتهديد والتذكير «بمقام وزارة الداخلية» التي «لا تغفل عن أمثاله»...»، ولم يعرف أكثر من أن صاحب الرسالة غاضب بسبب حجب مواد بعث بها ولم تظهر، ولأنه لم ير شيئا سابقا للأستاذ، ولو رأى لاحتفى؛ فهو من يبحث عن المواد لا من يحجبها، وإذ أدرك أن في الأمر خطأ لا يناله ولو بعتاب فقد أدرك أن ثمة خلطا «ما»، وكان عليه أن يحمل الرسالة إلى رئيس التحرير الذي أفهمه أن المواد لديه، وهو الذي لم يشأ نشرها، وسيتولى أمرها.» إلى أن يقول: «وصلته مواد لاحقة من «الأستاذ» فنشرها كأن لم يكن شيء، وبقي في نفسه من هذا الوسط ما يجعله منصرفا عنه غير مطمئن إلى سلوك بعض الكبار التائهين في غيابات الاتهامات والتأويلات؛ فما دام هذا شأن النخب فكيف بالعامة ومن في فلكهم، ولهذا حكاية أخرى مع خطيب الجامع.»
إنها حالات تمثل -فيما يمكن- حالة مما وصفه سابقا «كيرنبرج» بالاستغراق في الشئون الذاتية، والهدوء المصطنع الذي يغطي تشويها عميقا في العلاقات مع الآخرين، واجتماع العظمة مع الشعور بالنقص، إلى جانب استغلال الآخرين، وعدم رحمتهم.
وهي حالات تظهر من خلال بعدين راكزين في النقد الثقافي الغذامي مع تحوير الظاهر والمضمر؛ فالمضمر هنا ما يدعيه أو سيدعيه هؤلاء الكتاب من دعوات إلى الحوار، والتقبل، والتعددية، وحالة الخطاب العملي الظاهر حيث الرفض والقمع، والسباب، والشتم، والشكوى والادعاء الكاذب.
وتصل النرجسية إلى مدى من الأنانية، والجحود الثقافي، والاستعلاء المرضي حينما تنكر لمسات الوفاء التي انتهجتها صحيفة الجزيرة لبعض الأسماء والرموز. يقول التركي في إشارة عابرة وسريعة لكنها دالة أقسى دلالة:» وتكتمل مفردات المعادلة بضعف الذاكرة «الجمعية»؛ فنحن نعرف من نرى، ولا نرى من لا نعرف، ولا يعنينا اختفاء قلم كما لا نتساءل عن وجوده، بل إن فينا من ينكر لمسات الوفاء الضئيلة التي تحاول التذكير ببعض الرموز المشرقة فمن هم؟ ولماذا هم؟ وماذا تريدون من بعثهم من مرقدهم؟»
إنها حالة الانخداع الفردي التي لا ترى لغيرها فضلا، ولا تمنح سواها فضلا، إنها عقلية المتضخم العربي الأول الذي لم يكن يرى فضلا لغيره، ولا حقا لسواه!
الكاتب النموذجي
لم تكن الصورة قلقة بشكل كامل في تعامل الكتاب مع «أدب الجزيرة وثقافتها» فقد كانت الصورة تقدم نماذج من صور الكتاب المؤمنين قولا وفعلا بهذه التعددية، ويشير إبراهيم التركي إلى نموذجين دالين هنا، هما الأستاذ محمد العلي، والأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي، حيث يقدمان تعاملا عمليا موضوعيا في تقبل الرأي، والبعد عن التضخم والمصادرة. يورد التركي مقارنة بين بعض الكتاب الذين يذيلون مقالاتهم بعبارة «لو حذف سطر فلا تنشروه، وموقف الأستاذ محمد العلي الذي استكتبه الجزيرة الثقافية، وأبرزت زاويته، بيد أن محرري الصفحة واجها مقالة يصعب نشرها، ومن الصعب التصرف فيها دون إذنه» ثم يقول : «جرى الاتصال بالأستاذ محمد بتردد وحذر، وبخلاف التوقع فقد أثبت الكبير أنه كبير، وأبدى تفهمه التام، واستعداده الفوري لبعث بديل، وتأكيده أن الرقباء يرون ما لا يرى؛ فهو حين يكتب لا يضعهم في حسابه، بينما التعليمات تسير وفق تعليماته وتتعرض لمساءلاته؛ فلا ضير في الحجب، ولا مانع من التغيير. درس ذو معان بالغة قدمه الرمز الجميل لمحررين شداة؛ ما زاد ثقتهم بموقفهم واحترامهم لأستاذهم ومعرفة الفارق بين من يرسم طريقا لسواه ومن يؤسس طرقا دائرية حول ذاته.»
ويمهد التركي لموقف غذامي موضوعي وتعددي يقف مواجها للتضخم والنرجسية، فيقول :»وفي المقابل ثمة رموز مضيئة تحترم دور الحوار المفتوح المنطلق دون حمايةٍ مشخصنةٍ مع المحافظة على الموضوعية والمنهجية والنأي عن المساس بالسلوك الفردي أو المناحي الخاصة.
يذكر منهم الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي الذي اُنْتُقِدَ طويلا ومريرا عبر الصفحات الثقافية قبلا، والمجلة الثقافية بعدا، ولم يعتب علينا أو يشكنا، ووضعنا عنوان الثقافية- بعد صدور كتابه حكاية الحداثة (حكاية الغذامي)، وفي العنوان ما فيه من الرمز، ولعلنا من أوائل من واجهوا الكتاب بهذه الرؤية التي سعت لإحالته من قضية عامة إلى سيرة شخصية، وكتب عنه مقال قاس ادعى أنه أفسد الثقافة السعودية، ولم يشأ صاحبكم مفاجأته به فبعث إليه- بعد طباعة المجلة الثقافية وقبل توزيعها- بصورة منه أعقبها اتصال منه يؤكد على أهمية الرأي الحر مهما جار.»
سؤال الغياب
تؤكد الرؤية الإشرافية عند إبراهيم التركي أن غياب بعض الأسماء عن النشر الصحفي في الملحق الأدبي، لا يعني غياب القدرة، والتميز، وأن الحضور النشري لا يعني الجودة والفرادة! وهي رؤية تنطلق فيما يبدو من خلال معايشة لبعض الكتاب الذين أطلوا على المشهد، ثم اختفوا زاهدين في ذلك؛ رغبة في الانزواء، أو هروبا من النخب التي لم يجدوها كما أملوها! والغريب أو ربما الجميل أن إبراهيم التركي كان حريصا على حضورهم في صفحات الجزيرة إلا أنهم كانوا ينأون عن ذلك الحضور.
ويستحضر التركي في ذكرياته الصحفية أو مذكراته مصطفى السدحان الذي كتب نصاً شعرياً وزعه على زملائه في معهد الإدارة، مدافعاً عن اللواتي قدن السيارة، ومطلعه: «كذب الذي قال الحرائر ساقطات» وعنده «ثارت الدنيا عليه مع أنه دافع عن سيدات فضليات لا يجوز تخطي تجاوزهن النظام السائد بمبررات مشروعة لديهن إلى اتهامهن في أخلاقهن، ولم يحفظ الموضوع ضد «أبي محمد» إلا بعد وجاهات وتعهدات، وهو ما أيقظ لديه الحس الإبداعي الجميل؛ فأتبع نصه بنصوص» إلى أن يقول:» ونص السدحان ألغى من أذهان من تابعوا القضية التزام الرجل الديني والسلوكي وانضباطه العملي وثقافته الواسعة، وانكفأ على نفسه ونتاجه يطلع عليه أصفياؤه وحدهم، وخسرنا مشروع شاعر وروائي وقاص ومثقف شمولي، ونبحث عنه نحن «من كنا قريبين منه» فلا نعرف له طريقا، رغم يقيننا أن لديه الأجمل، وما نزال نطمع في خروجه من عزلته وبخاصة بعد تقاعده من العمل»
ويدله أحدهم على استضافة ضيف نادر الظهور إن لم يكن منعدمها، وكان شيخا كبيرا، قيل إن لديه مكتبة منزلية نادرة، ورغم أنه لم يسمع باسمه من قبل؛ فقد استجاب، ثم يقول بعد ذلك :» وجد ما قيل عن الضيف أقل من حقيقته، ورأى في مكتبته ما لم يره في كل المكتبات التي زارها دونما استثناء، وسعد حين خرج من لقائه مع العم الشيخ محمد الحمد العمري رحمه الله بصفحة بقيت في ذاكرة القراء ولفتت النظر إليه قليلا» ثم يقول :» الشيخ العمري من أهالي عنيزة وتشهد له مكتبته بوعيه الثقافي، ومخزونه المعرفي وحجيته في بعض قضايا التأريخ الشفهي»
ويتذكر التركي أن شابا صغيرا قد دخل عليه مكتبه ذات أصيل جميل، مقدما له – كما يقول – «دراسة علمية في استحياء وذوق وأدب، ظنه مرسلا بها من أستاذ له في الجامعة، ومع الحديث اكتشف أن هذا الشاب النابه هو صاحبها بحثا وتأصيلا ومراجعة، ما جعله يطرب كما لا يفعل مع كثير من المواد، وهو ما دفعه لاستبقائه من أجل الاتفاق معه على استكتابه بصورة رسمية.
أبرز مادته بعنوانها العريض، واحتفى بما تلاها من موضوعات، ثم اختفى الشاب فجأة كما حضر فجأة، وكان قد أبلغه أنه طالب دراسات عليا في آداب جامعة الملك سعود، ولم يكن بينهما تواصل شخصي ليعرف أسباب توقفه سوى تفسير منطقي يخص أطروحة علمية أو ابتعاثاً خارجياً، ورغم مرور سنوات طويلة»لا تقل عن عشرين عاما»فلم ينسه وظل يبحث عنه حتى اهتدى إليه. عرف أن الدكتور جواد الدخيّل الأستاذ بجامعة الملك سعود الذي أجمع على تميزه أساتذته وزملاؤه وطلبته، ويذكر شهادات شفاهية سمعها من الأساتذة الدكتور عبدالكريم الأسعد -رحمه الله- والدكتور عبدالله الغذامي والدكتور إبراهيم الشمسان وأدرك أنه غاب عن النشر الصحفي فقد هجر الجامعة بتقاعد مبكر»جدا» ولزم عزلته البحثية الصامتة التي نتطلع للإفراج عنها.
قابله في مناسبة أكاديمية غير رسمية وكان في جانب قصي من المجلس، ودله عليه أستاذه أبو أوس الشمسان فسلم عليه بكل مفردات الفرح والاعتزاز، ورجاه أن يعود للساحة الثقافية التي تحتاج إلى مثله، لكنه أيقن من إجابته انه ناء عن الجامعة والإعلام والمشهد الثقافي العام وسعيد بما هو فيه.
من الخسائر الكبيرة أن نفتقد «جواد الدخيّل» في أوج عطائه ولا يدري لِمَ يقرأ- في تجربته- تجربة عبقري الجغرافيا العربية الأستاذ الدكتور جمال حمدان، وعبقري النحو والصرف الأستاذ الدكتور حسن شاذلي فرهود- رحمهما الله- اللذين غادرا كراسيهما الجامعية قبل أوانهما، ولكل من الثلاثة مبرراته.»
كما يشير إلى غياب صالح الأحمد العثيمين الشاعر الذي أمل بعضنا- كما- يقول التركي «أن يكون ذلك مقدمة لعطاء إبداعي ومشاركات ثقافية وبخاصة أنه -إضافة إلى شاعريته- قارئ جيد» ومع دعوة المشرف على صفحات الأدب والثقافة للعثيمين لإخراج ونشر شعره، فقد آثر البعد البعد عن المشهد واختيار العمل التجاري، يقول إبراهيم التركي:» ولا يملك صاحبكم معلومات عن التحولات التي طرأت في حياة أستاذنا وجعلته يؤثر العمل التجاري ويرتحل داخل وخارج الوطن محتملاً وعثاء السفر منشغلا بهموم شعيره عن أوراق شعره»
والسؤال هل كان انصرافه عن المشهد احتجاجاً على واقع الميدان الثقافي، ذاك أن التركي يشير إلى أنه قد حضر حفل تكريمه من قبل الجمعية الخيرية الصالحية، ويقول عن ذلك:»ثم عاد الشاعر لعزلته حتى أخرجته منها الجمعية الخيرية الصالحية حين كرمته في احتفال مشهود ألقى فيه كلمة مرتجلة جريئة عرضت الواقع المجتمعي والثقافي بقدرٍ وافر من الشفافية»
إن الحالة التي يرصدها التركي من خلال العزوف الغريب عن النشر الصحفي، مع وجود القدرة والتميز تبعث على البحث عن الحقيقة الكامنة خلف هذه المغادرة؛ فهل يكون المشهد الكتابي بشخوصه، وأحداثه، وموضوعاته، وتعاملاته هو الطاردَ الحقيقي لهذه الأسماء؟وخاصة أنها حالات متعددة تنفي أن تكون هناك ظروف خاصة؟وهل يمكن أن يكون ترهل المشهد ببعض الأسماء الضعيفة المتلونة مانعا هذه الأسماء من الاصطفاف معها في منفذ نشري أو تجمع ثقافي، أو أكاديمي؟ إن غياب هذه الأسماء وغيرِها، واتخاذَها أسلوبَ الانصرافِ في أوج عطائها مع تميزها ومحاولات إثنائها، لهو أمر يبعث على السؤال تلو السؤال عن السبب ومكمن الخلل! وإذ لم يكن هناك من طريق للوصول إلى السبب من خلال المغادرين الصامتين أدباً، فكم كان - ولن تنفع هنا شيئا كان- من الحكمة أن يستيقظ المتضخمون في ساحات النشر من أوهامهم، وأن يراجع المتلونون أنفسهم، وأن يتنبه الضعفاء لسذاجة طرحهم! ولو فعلوا لكانت ساحتنا الكتابية ريا بعطاءات هؤلاء المغادرين، ولكن لم يعد «للتمني» إمكان، ولا للرجاء مكان، فقد آذنت الأوراق الصحفية بغياب أبدي، وظهر وليد التقنية سريعاً مذهلاً، يلد كل يوم عجيبة جديدة، فسحت المجال لتعددية كبرى، انكسر معها الرقيب المتجبر المتحيز، فازدحم الفضاء بما ينفع الناس، من المتميزين والرائعين، وبشيء كثير من غير ذلك، ولكلٍ شرعته ومنهاجه في الاختيار والامتثال، والقادم خير وتعدد وثراء، وإن خشينا غير ذلك.
لقد كشفت تجربة عميد المشرفين الثقافيين في الصحافة السعودية جزءا من الصورة التي تخفي «كلا» لم أو «لما» ينشر، وقدمت تجربة غنية حفية بالتأمل والدراسة، وربما كشفت بحوث قادمة عن سر كشف اسم «سعدي يوسف»، وإخفاء أسماء أخرى! في ظل هذه الإستراتيجية التركية «الأخلاقية» التي أخفت الأسماء التي آذت، وتجاوزت! وصرحت بالأسماء المتميزة. ولربما كشفت البحوث القادمة سر التغير الكبير الذي مارسته «الطبعة الكتابية» لإبراهيم التركي، حيث غيرت في جزء من هذه الكتابة من سمات كتابتها التي تعتد بتوظيف الجناسات الذكية العميقة، التي تتجاوز فكرة «الحلية البلاغية» في توظيفها «للجناس» إلى صنع أفكار عميقة في صورة جناسية متفردة، تطوع اللغة وموسيقاها الجناسية كيف شاءت بعيدا عن التكلف، والتقعر.
** ** ** ** ** ** ** ** **
المصادر:
) سيرة كرسي ثقافي - تأصيل وتفصيل، إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الأولى، 2015م
المراجع:
- أوهام النخبة أو نقد المثقف، علي حرب، المركز القافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الرابعة، 2008م.
- ديوان عمر بن كلثوم، جمعه وحققه ونشره، د. أميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، الثانية، 1416هـ1996م.
- الشخصية النرجسية - دراسة في ضوء التحليل النفسي، د. عبدالرقيب أحمد البحيري، دار المعارف، القاهرة، الأولى، 1987م.
- شرح ديوان المتنبي، شرحه وكتب هوامشه مصطفى سبيتي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الثانية، 2003م -1423هـ
- قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، الرياض، الأولى، 1435هـ .
- النقد الثقافي - قراءة في الأنساق الثقافية العربية، عبدالله الغذامي، المركز الثقافي العربي، ، الدار البيضاء، المملكة المغربية، الأولى، 2000م.
** **
- د.عبدالله أحمد حامد