الكُتب كانت أسبق منه وصولاً للبيت، وجدها أمامه منذ أن وعى نفسه! ففي بيتهم الكبير - عند أبيه - مكتبة، يقرأ منها والده كل يوم بطلب من جدّه، ويقرأ على أعيان القرية حين ينعقد مجلسهم حسب جدول الملتقى...
بعد دخوله المدرسة، كان والده أحد معلميَّه، وأحرص على تعريضه للكتب، سواء في مكتبة المنزل أو المدرسة، التي كان كثيراً ما يقضي وقته فيها؛ مصطحبه إليها ويرشده إلى ما يقرؤه..
ولأنّه الغريبي سعد، صاحب المعرفة التنويرية، والباحث بمفردات الوعي والفكر، عن مفردات ودلالات ربما،تمثلنا، وتجمعنا في مصائر مشترك، تَوسَّمَ دَعوةَ صاحب «الخبز الحافي»: قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف، حتما، طريقها. لا يهم ما ستؤولُ إليه. المهم هو أن تُشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية.. أن تشعل لهيبا في المناطق اليباب الموات.
بعد هذه الاستهلالية، حدّثنا ضيفنا في زاوية (ذاكرة الكتب) الكاتب الأستاذ (سعد عبدالله الغريبي) عن أبرز بدايات الكتب التي قرأها، واشتراها، والكتب التي استعارها؛ قائلاً: مع ذلك لم يبخل علي بما لا يتوفر في المكتبتين، مما يناسبني، كالقصص السهلة المصورة، والمجلات مثل مجلة (الروضة) لعباس فائق غزاوي - أو بابا عباس - ومجلة السندباد، ومجلة سمير أميس، ومجلة العربي الصغير التي كان يستلها من مجلة العربي حين يقتنيها كل شهر. وفي المرحلة المتوسطة أذكر أنني قرأت الأيام لطه حسين، والوعد الحق له أيضا، ومجموعة قصصية بعنوان (الأطياف الأربعة) لسيد قطب وإخوته.
وخرجت من جلباب أبي في بداية المرحلة الثانوية وبدأت بتكوين مكتبتي، قبل أن يُتوفى - رحمه الله - وأرث مكتبته. كان من أوائل الكتب التي اقتنيتها (أبو القاسم الشابي) لأبي القاسم كرو، و(المعتمد بن عباد) لعلي أدهم، و(البؤساء) لفيكتور هيجو و(سقوط الباستيل) لإسكندر ديماس، و(العجوز والبحر) لهمنجواي. وكثير من روايات أجاثا كريستي.
وتابع: أما أول كتاب ألفته فهو (الأصوات العربية وتدريسها لغير الناطقين بها من الراشدين) وهو البحث المكمل لمؤهل الماجستير في علم اللغة التطبيقي من معهد تعليم اللغة العربية لغير العرب التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد نشرته لتلبية احتياج معلمي اللغة العربية لغير العرب آنذاك لمثله، فأنا أول خريج من أول دفعة من المعهد، ولم يكن تعليم اللغة العربية لغير العرب مستقلا عن تعليمهم لغيرها.
وبين وهو يستعرض جوانب من رحلة البحث عن الكتب، وأبرز القضايا والمواقف وما إن كان قد واجه صعوبات في الحصول على بعضها: لم أواجه صعوبات معينة في اقتناء الكتب من معارض الكتب، لأنني حين أحتاج للكتاب أبحث عنه فورا ولا أنتظر المعارض. أما المعارض فأتجول للاطلاع على الجديد في مجال اهتمامي وأقتني ما يسترعي انتباهي.
ومن أطرف الأمور التي حدثت لي مع الكتب، أنني كنت عائدا من البحرين بالسيارة مع صديقين لي، وقد اشتريت من مكتبة العائلة كتابا بعنوان (الطفل ومشكلات القراءة) وقد حاول مصادرته مني موظف الجمارك؟! قبل أن أقنعه بأنني «مشرف تربوي» وأحتاجه في مجال عملي، في حين لم يلفت انتباهه ديوانين لنزار قباني كانا مع زميليَّ!
ومن المواقف الطريفة: أنني كنت في مكتبة الكلية أبحث عن كتاب (عبث الوليد) لأبي العلاء المعري، ولم أجده في رفوف الأدب، فسألت عنه أمين المكتبة، فقام معي واتجه بي لرفوف كتب التربية واستله منه وناولني إياه، وكأنه يريد أن يثبت جهلي بكيفية البحث عن كتاب!
(المرأة الجديدة) يدعو أن تنال الحرية منحها إياها الدين
حصلت يوماً ما من معرض الرياض للكتاب، في إحدى نسخه المبكرة على كتاب بعنوان (هارون الرشيد أمير الخلفاء وأجل ملوك الدنيا) لشوقي خليل، وقد غير هذا الكتاب نظرتي لهارون الرشيد تماماً، التي كنت أستمدها مما أسمع عنه وعن لهوه مع أبي نواس، ومع جواريه، ودفعني لكتابة عرض عن الكتاب نشر في جريدة الرياض في صفحة كاملة في عام 1406 أو 1407 كما قدمت له ملخصا في البرنامج الإذاعي (كتاب وقارئ) لإبراهيم الذهبي - رحمه الله.
والطريف أنه صدر قرار من إدارة التعليم بالرياض بسحب هذا الكتاب النفيس من مكتبات المدارس إبان عملي في الإشراف التربوي، وكان من مهامي بوصفي مشرف اللغة العربية أن أتأكد من خلو مكتبة المدرسة التي أزورها من الكتاب المذكور!
وهذا الكتاب جعلني أعيد نظرتي لكثير من الأمور التي كنت أعدها من المسلمات، ولم أعد أجزم بقول ولا رأي في كاتب أو كتاب إلا بعد الاطلاع عليه في مصدره. وهذا ما أعادني للتأكد من قاسم أمين ودعوته لإفساد المرأة كما كنا نسمع ونقرأ، فقرأت كتابه (تحرير المرأة) وكتابه الآخر (المرأة الجديدة) ولم أجد فيه إلا الدعوة لتحريرها من الأغلال التي كبلها به المجتمع، ولم يدعُ أبدا لتركها دينها أو انحلالها. كان يدعو لأن تنال الحرية التي منحها إياها الدين الحنيف وسلبها منها المجتمع.
وقال الكاتب الغريبي: الأفكار طيور محلقة لا تستطيع حبسها في قفص، ولا تأجيل إطلاقها. ولكي أتابع الكاتب في تشظي أفكاره فإنني أمسك بالقلم والكراس لأسلسل أفكاره إن رأيتها مبعثرة، وعندما أكتب وتتشظى أفكاري فإنني أقيد كل خاطرة في مكان واحد، حتى إذا حان وقت المراجعة عدت لهذه الأفكار المبعثرة، ووضعت كلاً منها في مكانه الصحيح، وما لم أجد له مكانا أطلقت سراحه.
لتتجنب (الأخطاء) في إصدارك
وأشار في حديثه عن التجربة القرائية مستعرضًا أحد إصداراته أنموذجًا أو مرشدًا لجني الفوائد وإشراع نوافذ معرفية جديدة تحول دون وقوعنا في أخطاء المؤلفين: من إصداراتي الأخيرة كتاب خفيف الظل اسمه (طعم الورد)، أودعته بعض خواطري وأفكاري التي أؤمن وأعمل بها، أختار منه ما يصلح لأن يكون جوابا لكل من يسألني إرشاده لما يقرأ، فأقول له: «حين تُمضي وقتا في قراءة كتاب أو رواية ولا تخرج منهما بكبير فائدة؛ تيقن أنك لم تُضع وقتك سدى متى ما تعلمتَ أن تجتنب أخطاء هذا المؤلّف في إصدارك القادم»!
وأقول أيضا: «إذا كنت لا تقرأ إلا لمن تعرفه من الكتَّاب، وفي الموضوعات التي تهمك فحسب؛ فكيف ستتعرف على من لا تعرفه من المؤلفين، وما لا تعرفه من الأفكار»؟!
** **
- محمد هليل الرويلي