د. تنيضب الفايدي
يعد مسجد قباء أول مسجد أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم في أول يوم وطأت قدماه صلى الله عليه وسلم قرية قباء (كانت يثرب تتكون من عدة أحياء (قرى): قباء، الجرف، يثرب، والعريض) وشارك صلى الله عليه وسلم في بنائه، كما أعاد بناءه صلى الله عليه وسلم بعد عام ونصف العام عندما تحولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، ويعد مسجد قباء رابع مسجد في الأهمية بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، لذا فإن توسعة مسجد قباء الحالية أي: مشروع الملك سلمان لتوسعة مسجد قباء، والذي أطلقه ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله، يعد هدية لجميع المحبين لرسول صلى الله عليه وسلم ومدينته، حيث تضاعفت مساحته أكثر من عشر مرات، وكان يستوعب في حدود عشرة آلاف مصلٍّ، أما بعد التوسعة فيستوعب (66) ألف مصلٍّ، وعلى أحدث طراز، ويبقى للتاريخ يتحدث عن نفسه، وهكذا سيكون مشروع الملك سلمان لتوسعة مسجد قباء أكبر توسعة في التاريخ.
وقباء أصله اسم بئر هناك، عرفت القرية بها، وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وهي قريةٌ قبلي المدينة، وأصبحت الآن داخل المدينة المنورة، ومسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، وكان المسجد مربداً لكلثوم بن الهدم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبناه مسجداً، وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته، وصلى فيه قبل أن يدخل المدينة حين قدومه من مكة. قال ياقوت: «وأصله اسم بئر هناك عرفت القرية بها، وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار...».
ومسجد قباء الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشارك في بنائه، روى الزبير بن بكّار عن عتبة بن وديعة عن الشَّموس بنت النعمان، وكانت من المبايعات، قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤسس المسجد بقباء، فيأتي بالصخرة أو الحجر فيحمله بيده حتى أنظر إلى بياض التراب على سرَّته أو بطنه، فيأتي الرجل من قريش أو الأنصار فيقول: يا رسول الله، اعطني الحجر أحمله فيقول صلى الله عليه وسلم: لا، خذ حجراً مثله».
وهو مسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم وهذا هو قول الجمهور في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. (سورة التوبة 107-110).
ولمسجد قباء فضائل متعددة، منها: أنه أعدل قبلة مثل المسجد النبوي الشريف، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أسسه وبناه بيده الشريفة، كما أن الصلاة فيه تعدل عمرة، فقد روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من توضأ فأسبغ الوضوء وجاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة». رواه البخاري.
ولعِظم مكانة مسجد قباء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم التردد إليه، إما ماشياً أو راكباً، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبتٍ ماشياً أو راكباً» متفق عليه، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعله، ويقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت. متفق عليه، وكانت مواد البناء من الصخور فعن الشموس بنت النعمان قالت: «نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد، مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصر الحجر، وانظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله اعطني أكفك، فيقول: لا. خذ مثله. حتى أسسه.
وروى أبو غزية قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي قباء يوم الاثنين، ويوم الخميس، فجاء يوماً فلم يجد فيه أحداً من أهله، فقال: «والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا، ويؤسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يؤم به البيت وحلف عمر بالله لو كان مسجدنا هذا بطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل». رواه البخاري. كما روى البخاري في الصحيح: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه، وخرج إلى المدينة. وروت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها قال: «والله لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحبُّ إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين، ولو يعلمون ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل». يقول الفيرزوآبادي: كان النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء في منزل كلثوم بن الهدم، وأخذ مربده فأسسه مسجداً وصلى فيه، ولم يزل ذلك المسجد يزوره رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته»..
وبقباء بئر أريس أحد الآبار التي تسقي المدينة فيما يطلق عليه (عين الزرقاء)، علماً بأنه لا توجد عيون في المدينة المنورة وإنما عملت مناهل داخل المدينة المنورة من ماء عيون الآبار القادمة من قباء.
وكانت قرية قباء منتزهاً لأهل المدينة حيث يكون هواءها بارداً صيفاً، وهي متصلة بالعوالي وتكوّن معها واحة واحدة من النخيل. قال الشاعر:
إذا كنتُ في أرض العوالي تَشَوَّقَتْ
لأرض قبا نفسي، وفيها المؤمَّلُ
ولو كنتُ فيها قالت النفسُ: ليتَ لي
بأرض العوالي يا خليلي منـزلُ
يقول السَّريُّ بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاريُّ:
ولها مَرْبَعٌ بِبُرْقَةٍ خَاخٍ
ومَصِيفٌ بالقصرِ قصرِ قباء
كفِّنوني إنْ متُّ في درعِ أَرْوَى
واغسلوني من بئرِ عروةَ مائي
سخنةً في الشتاءِ باردةً في الصَّيفِ
سِراجٌ في الليلة الظَّلماءِ
وقد اشتهرت قباء بالهواء العليل البارد صيفاً حتى ما قبل خمسين عاماً لكثرة البساتين والحدائق واتصالها ببعضها ولا توجد بينها إلا منافذ ضيقة تؤدي إلى مسجد قباء وكانت حوله مقاهٍ (جمع مقهى) تستقبل من يقدم إليها من المدينة مجموعات وأفراداً حيث تقدّم لهم تلك المقاهي: (المعدوس وأنواعاً من الشاي المعطر بالنعانيع والنمّام (نوع من الزهر):
أقول وطرفُ النرجس الغضّ شاخصٌ
إليَّ وللنمَّام حولي إلمامُ
أيا ربُّ حتَّى في الحدائق أعينٌ
علينا وحتّى في الرياحين نمَّامُ
وتعد قباء مع العوالي مصدراً من مصادر الأدب شعراً ونثراً، بل إن منظر غابات النخيل التي تغطي أرض قباء والعوالي من مثيرات الحبّ، حيث يذكر الشاعر العوالي وقباء متشوقاً إليهما:
إذا كنتُ في أرض العوالي تشوَّقت
لأرض قُبا نفسي، وفيها المؤمَّلُ
ولو كنت فيها قالت النفسُ: ليت لي
بأرضِ العوالي يا خليليَ منزلُ
فيا ليتَ أنّي كنتَ شخصين فيهما
وما (ليتَ) في التحقيق إلا تعلّل
ولعلّ وادي بطحان الذي يخترقهما (قباء والعوالي) يمثل ذلك الحبّ؛ لأن من أسماء طابة الحبيبة، المحبَّة، المحبَّبة،الحباب والمحبوبة. قال الشاعر:
أبا سعيدٍ لم أزل بَعدكم
في كُرَبٍ للشوق تغشاني
كم مجلس ولّى بلذَاته
لم يَهْنَني إذ غاب نُدْماني
سقياً لسَلْعٍ ولساحاتها
والعيش في أكناف بُطْحان
أمسيتُ من شوق إلى أهلها
أدفعُ أحزاناً بأحزان
والنقا والمنحنى بعض أسماء الأجزاء من هذا الوادي الذي يخترق المدينة المنورة قديماً وقد اشتاق إليه كثير من الشعراء ومنهم من سحرته أعين من سكن على ضفاف هذا الوادي، قال الشاعر:
مَن عذيري يوم شرقيّ الحمى
من هوىً جدّ بقلبٍ مزحا
نظرةٌ عادتْ فعادتْ حسرةً
قَتَلَ الرامي بها من جرَحا
قلن يستطردن بي (عين النقا)
رجلٌ جُنَّ وقد كان صحا
(وعين النقا) عين (بكسر العين) جمع عيناء أي واسعات الأعين حسانها، وحسن عين الأنثى يعد مجمع الحسن وأعظم الأدلة على جمالها، ولا سيما إذا كانت حوراء (حور عين) والحوراء التي في عينها كحل وملاحة وحسن وبهاء.
يقول الآخر:
سَقْياً لأيام مضت مع جيرة
كانت ليالينا بهم أفراحا
واهاً على ذاك الزمان وطيبه
أيامَ كنتُ من اللغوبُ مُراحا
حيث الحمى وطني وسكان النَّقا
سكني ووِرْدي الماءَ فيه مباحا
وأهَيلَه أربَى، وظِلُّ نخيله
طربى، ورملةُ وادييه مَرَاحا
وما رنَّحَتْ ريح الصبا شيح الرُّبى
إلا وأهدت منهم أرواحا
أما المنحنى فيرتاح الشعراء بذكره فكأن ذكره صفة مرتبطة بالحب وبالشباب، له ذكر في الغزل بأماكن المدينة، وهو عند أهلها اليوم بقرب المصلَّى، وهو الجانب الشرقي لوادي بطحان إذا دخل المدينة المنورة، وكان بالمنحنى منازل لأهل الجيرة حتى قال فيه:
خدور على الخط والمنحنى
بها يغفر الله عمّن جَنَى
فيا جيرة القبر من يثرب
أجيروا محبا إليكم دنا
وقولوا: قدمتَ على أحمد
شفيع العصاة وكنز الغنى
فبشراك ما ترتجي حاصل
ويهنيك هذا مقام الهنا
وقباء ومنطقة العالية تعدان منطقة واحدة، وتضمّ مجموعة كبيرة من المواقع التي لها ارتباط بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، سواءً كانت مساجد أو آبار أو أودية، كما تضمّ جزءاً مما أطلق عليه لاحقاً آبار النبي صلى الله عليه وسلم مثل: بئر العهن، بئر غرس، بئر أريس (الخاتم).
وأخيراً أهنئ نفسي وأهل طيبة ممثلين في محبّ المدينة والذي سعى وتابع ويتابع هذا المشروع العظيم صاحب السمو الملكي الأمير/ فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة المدينة المنورة.