د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لن آتي بجديد لو تحدثت عن الإسراف في موائد إفطار شهر رمضان الكريم، فذلك الموضوع قد طُرق، وسوف يطرقه العديد ممن لديهم منابر لإيصال ما يرونه حقاً إلى الناس جميعًا من أولئك الأئمة، والعلماء، والكتَّاب، والمغردين في وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضًا المتحدثين عبر التلفاز والمذياع وغيرهما من وسائل التواصل، التي اعتاد الناس على مشاهدتها، أو سماعها، أو قراءتها، لكن تغيراً ملموساً لم يحدث -في ظني- خلال فترة طويلة من الزمن، ويبدو أنه سيستمر مع تحسن طفيف، والناس يصعب تغيير عاداتهم التي اعتادوا عليها، إذا لم يكن هناك فرض من خلال القانون، وهذا لا يمكن، بل يستحيل لأنه أمر شخصي داخل المنزل، والغريب في الأمر أن مثل ذلك الإسراف غالبًا ما يشترك فيه الغني ومتوسط الحال، لا فرق، وهذا أمر أيضًا يحتاج إلى تأمل وتفكر لبحث السبب الذي يدفع الناس إلى الأفراط في موائد الإفطار في هذا الشهر الكريم.
لهذا السبب سيكون موضوع هذه المقالة، هي عن كمية الإفطار التي يتم تقديمها، ومواعيد تقديمها، وأيضًا نوعية ذلك الإفطار، والناس هنا لديهم تباين كبير في التوقيت المناسب لتناول كميات معينة من الإفطار، ولقد شاهدت وشاركت في إفطار رمضان عند صديق أو قريب، عندما يضعون جميع ما لديهم من مادة غنية، ودسمة، ومتنوعة مرة واحدة، بعد الأذان مباشرة، ثم يملؤون البطون بما لذَّ وطاب، بعد صوم طويل، مما يدعوهم إلى الإفراط في الأكل بشكل كبير، وبعد ذلك يذهبون إلى المسجد لصلاة المغرب، ثم يعودون للمنزل للمآنسة، والحديث، مع تناول أكواب القهوة والشاي، وشيء من الحلويات المتاحة. ولا أعلم إن كان هناك بقية في المعدة أو فراغ، لتناول تلك الحلويات وحتى شرب الماء والقهوة، لكنه يحدث لدى بعض الأسر سواء في المملكة، أو في غيرها من الدول الإسلامية الأخرى.
هناك من يتناول قليلاً من التمر وبعض المعجنات بعد أذان المغرب وقبل الذهاب إلى المسجد، ثم يأتي وقد أمتلأت السفر بأنواع المأكولات الدسمة والثقيلة، مثل الكبسة، والقرصان، والجريش واللحوم، وغيرها، ثم يهجم عليها هجوم الأسد، وينهشها نهشاً دون استمتاع، حتى لا يكاد يتنفس، ثم يسترخي، وبعد أذان العشاء، يجر ساقيه إلى المسجد، وهو لا يكاد يسير، والله أعلم إن كان قد وعاها، وعند حلول السحور يملأ معدته مرة أخرى.
هناك من هو أكثر واقعية، حيث يناول القهوة والتمر، ثم يذهب إلى المسجد، ويعود ليتناول بعضاً من الفطائر، وفي العاشرة مساءً أو الحادية عشرة يتناول وجبة العشاء، ولا يتناول في السحور إلا قليلاً مما هو متاح من أكل أو شرب خفيف مثل الزبادي أو شرب اللبن، إذا كان ممن يحب تناول منتجات الألبان، إلا أن هناك من لا يستسيغ تناولها أمثالي.
هناك من يتناول بعد أذان المغرب قليلاً من التمر، ويشرب الماء وعددًا محدودًا من فناجين القهوة، ثم يذهب إلى المسجد لصلاة المغرب، ويعود ليأكل مما هو متاح من الفطائر المتنوعة، ويشرب قليلاً من حساء الخضراوات أو غيرها في هدوء وطمأنينة، ويشرب الشاي على مهل إلى أن يذهب إلى المسجد لصلاة العشاء، ومعدته لا تحمل إلا شيئاً يسيراً، ويكتفي بذلك، وإذا أحس بشيء من الجوع أكل بسكوتاً أو ما شابهه، حتى يتناول سحوراً خفيفاً جداً، وليس بالضرورة أن يكون مطبوخاً، حتى أن هناك من يقاطع المطبوخات من الأرز وخلافه ما عدا الفطائر حتى ينتهي رمضان، وهذا ما أفعله.
أما نوعية الأكل فحدث ولا حرج، وكأن للزيوت والسكريات موعداً خاصاً مع هذا الشهر الكريم، والمقليات مقامها -مع كل أسف- عظيم، وكأن بعضاً من الفطائر لا يطيب مذاقها إلا بالزيت، والزيوت كان يستخدمها الأوائل حتى لا يلتصق الأكل بباطن القدر، وكذلك حتى يعطي الطعام نكهة معينة، بينما وسائل الطبخ المتاحة مثل القدور الحديثة، والتجفيف بالهواء يغني عن الزيت، كما أن إضافة بعض الخضراوات تجعل من الطعام أكثر لذة، وأقرب إلى تجنب الضرر، وأحرى بالحصول على مزيد من الصحة. والحقيقة أن من جرَّب تجنب المقليات، وقلل الزيوت في غذائه شعر بفارق كبير في صحته، وراحة جسمه، فهي بيت الداء الحقيقي، وتجنبها أفضل من أي دواء، ويمكن للطباخ الماهر أن يصنع مائدة لذيذة جداً دون حاجة إلى زيت، وتبقى الحلويات بأنواعها مشكلة لمن يحبها، وإن استطاع تجنبها ربح، وإن لم يستطع فالقليل منها يكفي، والمشكلة تكون أكبر عند عشاق الشوكولاتة، لا سيما الخبراء بأنواعها وماركاتها.
يبقى أن نختم المقال بأن شهر رمضان الكريم موسم صلاة وصوم وقراءة قرآن ودعاء، وأن علينا أن نأكل من القوت ما يعيننا على الطاعة، ويجلب لنا الصحة، لنساعد في عمارة الأرض، كما أمرنا، مع إيمان بالله وتقرباً إليه بالطاعات.