د. شاهر النهاري
الحزن يلوح لنا من كل فج عميق، ويتصيد غفلة أعيننا ليكتب في قاعها قصة حزينة، تظل آلامها وتعاستها تنقش حروفها على حوائط جيناتنا، فيتعاظم الحزن، ويستمر لفترات أطول، قد لا تتمكن ذاكرتنا البشرية، كثيرة النسيان، من تجاوزها بسهولة، فيظل الحزن يرافقنا مهما حاولنا أن نتحمل، ونتجمل، وأن نتعالى على مشاعرنا الرقيقة.
الحزن صفة إنسانية، تدل على الوعي، والضعف والرحمة، وعلى قدرة التخيل، فدوماً يكون لنا القدرة على وضع أنفسنا مكان الآخرين، وفتح بوابات التخيل، لنشبع الصورة المستحدثة بالتفاصيل، ونبكي في جوفنا، حتى وإن كانت أعيننا تعاندنا بعدم ذرف الدموع.
الحزن زائر ثقيل لا يمكن أن تكون زيارته بدون سبب، فأسباب الحزن كثيرة المشارب، تدهش حتى صاحبها، ولكنها تجتمع على وجود القصور والظلم، بأسباب أصيلة قديمة أو متجددة، تغلف مجموعة الأحزان بغلاف واحد.
الظلم الطاغي بدون قدرة على مقاومته، ذلك الجامع لكل سوء في الحياة، حينما نراه، ونقيسه، ونقارنه، وندرك قوته وسطوته بتملكه لجميع المشاعر، وتشتيته لكل المؤثرات المفرحة في لحظات تواجده، يصيبنا بنوع من الكآبة، وشعور بالضعف، وانعدام الوسيلة، والاستسلام للتشرنق، والاستعانة بإطلاق الدموع لتغسيل أثاره الدامية.
الظلم له درجات تبدأ واسعة من ظلم أمة لأمة، وفئة لفئة، وظلم الجماعات للأفراد، وظلم الكبير المقتدر للصغير، وظلم الفرد للفرد، إما بروتينية وقوع الظلم، أو بغفلة، أو باعتقاد استحقاق المظلوم لما يحدث له، بذنب أو شبهة، أو نوع من التجني.
والظلم له مناطق ومدارات متباعدة، فليس الظلم على البعيد كالقريب، ولا على الند كما على الحبيب، وليس بكل الأحوال، كما يشعر المظلوم بنفسه، ويكون هو أعرف الناس بما حدث له، ويبحث عن المسار فلا يجده، ما يجعله يصاب بالإحباط وخصوصاً إذا لم يكن له أعوان ومصدقون بمظلوميته.
الظلم درجات، فبعضها متدارك، يمكن للنفس القوية تحمله، ودمجه بالقدرة، وحسن النية، والتبرير للظالم، ووضع النفس مكانه، وظروفه، التي قد تكون أجبرته على الوقوف تحت شلالات الضغوط، والصبر على الأذى، والتعالي على الشكوى، والدمعة، ما يجعله يجير الظلم لجهة أخرى تحمل معه بعضه.
الظلم أشد مرارة على النفس عندما يكون من قريب، أو حبيب، باعتبار أن المظلوم يشعر حينها بأن الدنيا مغبة غدر، وأن الخطيئة بحقه ناشزة لا تستحق المسامحة، فيعمد لخلق رؤيته حيال ذلك من زوايا مفهومه، حتى ولو لم تكن منطقية، ومن ثم المعاملة بالمثل، ورد الصاع صاعين في سقاية جذع حقد عميق يتفرع، ويتحول إلى أغصان شيطانية، وعمليات إبداع في خلق الظلم، وتبسيط مساراته، والتلذذ بحدوثه، وقطف ثماره.
يعتقد الأغلبية أن أشد الظلم القتل، بسبب أو بدون سبب، ولكن هنالك دوماً ما هو أشد من ظلم إزهاق الروح، وذلك باغتصاب الحقوق والمعاني أو الجسد وتكرار الرضوخ والعيش ضمن تلك المأساة لفترات طويلة، يكاد الظلم فيها أن يتجدد عند كل شروق أو غروب.
وحتى ظلم الاغتصاب له درجات تتحدد بنضج وقوة وسلطة المُغتصِب، وصغر سن وتجربة المغرر به، ودرجة قربه من المغتصب ومدى ثقته فيه، حتى نجد في أبشع صور الظلم أن المُغتصب هو الولي أو الأب أو الأخ الأكبر، وهنا أيضاً يتحدد مدى قسوة الحزن على من يعيش ويدرك ذلك، وكم يتدرج الظلم في الوضوح والعلانية وانعدام القدرة على الرفض أو النقد، فحزنك حينما تسمع خبر الاغتصاب في الأخبار، وفي بلد بعيدة عنك، ودون أن ترى بعينك يختلف كلياً عن نوع وكم الحزن، مع خصوصية قربك من دقائق الحادثة، ومعرفتك بالمغتصب ونواياه وشروره، التي لم يتم السيطرة عليها من قبل الأخلاق والمعتقد ولا المجتمع ولا السلطة، ومدى ما يتولد في نفسك من الندم على عدم مبادرتك بالتدخل قبل الطامة.
الشرطي المتزن المخلص يقبض على المغتصب وهو يحاول السيطرة على أعصابه فلا يخلط بين الحق الخاص والعام، وبقلب لا يكاد يصدق مدى بشاعة الحدث، ولكنه لا يتهور، وكم يغلبه الحزن بعدها، حينما تعلق دموية وحيوانية وبشاعة الصور في مخيلته للأبد، متعاظمة بالخوف والغضب المكبوت حينما يتذكر أبناءه الصغار، ومحارمه.
الصحي، والطبيب يعالجان المتعرض للاغتصاب، وكل منهما يعاني في داخله من تمزق جوفه بمشاهد عنف أشرس من عشوائية المشاعر الحيوانية المتحجرة، فلا يمكن أن تمر ذكريات الصور في مخيلتهم دون دمعة ولو على الناشف، وتعاسة وحزن أسود يتراكم بالنفس، وشعور بالضعف.
والنائب العام يترافع متحفزاً بكل حزن الدنيا، والقاضي يحكم وهو يخشى أن يتجاوز مناطق الظلم، ويتمنى لو يستطيع مضاعفة تكرار العقاب إلى ما لا نهاية، لولا احترامه لسيادة القانون ومنطوقه.
ظلم البشر للبشر، في التحديات النفسية والتنمر، أو في استباحة الجسد والعرض والمال ليست جديدة الحدوث بين البشر، بل إنها أمور شائعة نراها أو نسمع عنها كل فترة، وفي كل مكان، والحزن، الذي نعيشه بمعرفتنا عن تفاصيلها يحبطنا، ولا يزيد في دواخلنا، إلا حيرة وحسرة وحزناً وخوفاً وملامسة للقسوة، والتعود عليها وتقبل تكرارها، حيث إنها جزء من حياة سنعيش بها طويلاً.