خالد محمد الدوس
اهتم عددٌ كبيرٌ من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثيرٌ من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم العلماء والمنظرين والباحثين في علم الاجتماع ..الأب الروحي لمدرسة شيكاغو من دون منازع العالم (روبرت بارك) مؤسس علم الاجتماع في أمريكا وأحد المساهمين البارزين في نمو علم الاجتماع الحضري, نظرًا لضخامة الإنتاجات السوسيولوجية التي ألفها حول مجموعة من الظواهر الحضرية كالهجرة والتفكك العائلي, والعلاقات العرقية, والهجرة البشرية, وعلم البيئة البشرية, والسكان والمشردين وعصابات الاحداث الجانحين والانتحار ومناطق الفقر وغيرها من الظواهر الاجتماعية والحضرية.
*ولد العالم الأمريكي روبرت بارك بولاية بنسلفانيا عام 1864م ثم انتقلت عائلته إلى ولاية مينيسوتا وترعرع فيها وأكمل تعليمه العام، حيث كان طالبًا محبًا للتعليم وبعد أن أنهى تعليمه العام وتخرجه من الثانوية عام 1882م,تولد داخل جوانحه رغبة الدراسة الجامعية ولكن والده لم يسمح له لشعوره من أن ابنه ليس مؤهلاً للدراسة الجامعية فهرب من المنزل وعمل في سكة الحديد ولاهتمامه بالظواهر الاجتماعية عمل في مهنة الصحافة، حيث التحق كصحفي في صحيفة ديترويت في مدينة نيويورك فركز في عمله المهني الإعلامي على دراسة الوظائف الاجتماعية للصحف وبحكم خبرته الإعلامية تعلم بارك الكثير فيما يخص المجتمعات الحضرية مما أسهم لاحقًا في نشاطاته السوسيولوجية.
وفي ضوء هذه النجاحات المهنية له اقتنع والده أن ابنه مفكر اجتماعي وصاحب حس مهني رفيع فقدم له الدعم في مواصلة تعليمه الجامعي فالتحق (بارك) بجامعة منيسوتا العريقة، وكان طالبًا متميزًا وعبقريًا حيث حقق امتيازًا في كل المواد الدراسية وأوصل تعليمه الجامعي في جامعة ميتشجان بعد أن قرر ترك التخصص (فقه اللغة) إلى دراسة الفلسفة في علم الاجتماع, وقد كان لأستاذه العالم كالفين توماس أعظم الأثر في نفسه ودفعه لتوسيع آفاقه الفكرية وتعزيز المفاهيم العلمية في المواد التي قدمها له, كما تأثر (بارك) بالفيلسوف الأمريكي وعالم النفس المعروف (جون ديوي) الذي قام بتدريسه في الجامعة وأنهى مقرر المنطق ثم درس في تخصصه الجديد الفلسفة وكان من أبرز الطلاب البارعين في هذا الاتجاه العلمي وبعد تخرجه من جامعة ميتشجان بتقدير جيد جدًا عام 1887م أزاد عنده هرمون الطموح العالي لدراسة الماجستير والدكتوراه, والاستمرار في رحلة استكشاف المجهول والعوالم الغامضة في تخصصه الثري..! فالتحق بجامعة هارفارد الأمريكية العريقة وحصل فيها على الماجستير عام 1899م, وبعد تخرجه وحصوله على الماجستير شد الرحال إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراه من أقدم الجامعات الألمانية جامعة (هايد لبرغ) فدرس الفلسفة في علم الاجتماع مع العالم جورج سيميل في برلين ونال الدكتوراه بعد رحلة من البحث والتحليل والاستقراء والاستنباط عام 1903م تحت إشراف العالم فيلهيلم فيند يلباند, والعالم الفريد هيتنير، وكان عنوان رسالته (الجمهور والعامة: دراسة منهجية وسوسيولوجية).
عاد العالم الاجتماعي بارك إلى وطنه بعد حصوله على الدكتوراه في فلسفة علم الاجتماع من أعرق الجامعات الألمانية فتم تعيينه أستاذًا مساعدًا في قسم الاجتماع بجامعة هارفارد فعمل موسمين في هذه الجامعة المخضرمة ليتلقى عرضًا مغريًا من معهد توسكيجي للعمل في تحليل القضايا العرقية في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية سبعة أعوام وكان مهتمًا بدراسة ظاهرة الفقر, وفي عام 1910 سافر بارك إلى العديد من الدول الأوروبية لمقارنة نسب في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية مع مثيلتها في أوروبا، وبعد سبعة أعوام قضاها في معهد الأبحاث توسكيجي عاد مجددًا للصرح الأكاديمي والتدريس في جامعة شيكاغو عام 1914م واستمر في هذه الجامعة الرائدة حتى تقاعده عام 1933م وتشير المعطيات العلمية والشواهد العقلية والنقلية إلى أن الفترة التي قضاها العالم الكبير (روبرت بارك) في جامعة شيكاغو بدأ قسم الاجتماع بالاستفادة من مدينة شيكاغو وضواحيها كمختبر أبحاث إلى حد ما مما مهّد العمل البحثي الذي أجراه بارك وبقية زملائه العلماء أمثال إيرنيسنت بريجيس, وهومر هويت, ولويس ويرث) في إعلان ونشأة منهجية علم الاجتماع الحضري وأصبحت تعرف باسم مدرسة شيكاغو. التي تميزت في تخصصها الحضري باختيار منهجي خاص ينتصر للبحث الامبريقي الكيفي فضلاً عن اهتمام روادها بالمسألة المنهجية التي تطورت في خضم الممارسة البحثية والانشغال بدراسة مختلف الظواهر والتحولات الاجتماعية التي عرفتها مدينة شيكاغو وخصوصًا ظاهرتي الهجرة والتحضر.
ألف هذا العلم , أو الأب الروحي لعلم الاجتماع الحضري العديد من المؤلفات الثرية ومنها كتابه الشهير المدخل إلى علم الاجتماع, وكتابه (المدينة) الذي اشترك فيه مع العالم أرنست برجس و العالم مكنزي.
*اعتبر بارك أن النسق الاجتماعي يتكون من أسسه الأيكولوجية التي يقوم عليها نظمه الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والتربوية, وهذه النظم تتأثر بالقوى المهمة (المنافسة-الصراع) وفي مركز هذا النسق وظيفة الضبط الاجتماعي, وهي المشكلة الرئيسة للمجتمع. ومن خلال هذه النظرية الديناميكية للمجتمع تعد نظرية بارك أن التغير الاجتماعي يتقدم خلال تتابع معين, أولاً عدم الرضا ثم القلق ومن ثم تنبعث الحركات الاجتماعية لتؤدي إلى تحسين النظم وبالتالي إعادة بنائها.
* أما فضله في تطوير علم الاجتماع فينحصر في استعماله الأسلوب الكتابي المبسط في تفسير النظريات والقوانين الاجتماعية الحضرية, ويمكن القول إن أهم ما يميز بارك في دراسته لكل الظواهر الاجتماعية الحضرية هي هيمنة البعد الايكولوجي عليه في تناوله لهذه الظواهر معتبرًا المدينة مجالاً خصبًا ومختبرًا اجتماعيًا لدراستها. وبالتالي أصبح رائد مدرسة شيكاغو (بارك) شخصية معروفة داخل وخارج العالم الأكاديمي بعد أن كان رئيسًا لرابطة علم الاجتماع والرابطة الحضرية شيكاغو. وعضوًا بارزًا في مجلس بحوث العلوم الاجتماعية.
* توفي رائد علم الاجتماع الحضري والشخصية المحورية في مدرسة شيكاغو (روبرت بارك) عام 1944م في
ولاية تينيسي الأمريكية عن عمر يناهز 80 سنة بعد أن قدم إسهامات علمية ومنجزات بحثية أثرت علم الاجتماع الحضري ومازالت نظرياته ودراساته الاجتماعية الحضرية تُدرس في أعرق الجامعات العالمية كرائد من رواد هذا العلم الخصيب الذي نقله نقلة نوعية من مجرد كونه علمًا فلسفيًا جامدًا إلى علم حيوي متأصل في دراسة السلوك البشري داخل إطاره الاجتماعي.