تعرف النقاء في خافيته من حرفه ولسانه حين ترد أسماء الآخرين عليه.
عُرفت له عينٌ وعينٌ:
عينٌ ظلت مراقبة لخيل أرادها راكضة في ميادين العلم، مستحلبة فرصا وإن شحّت؛ لإسعاد تلاميذه وقرائه، ناشدة تآتي المناسبات لتسبقهم بالسلام والسؤال والتهنئة. متمثلة: (البِشْر يعقد القلوب على المحبة).
ومع انفلاق الصبح تكون مواعيده الباكرة، أسائله وأنا القادم من خارج الرياض، أليست هذه منحتك الأسبوعية لتنهل منها دعة وراحة وشيئا من نسيم الفكر فلم البُكر! فيجيب: لا أجدني أصفى وأنقى من لحظات البكور، أفلا أشاطرك إياها!
عين بصيرة بالفكرة -حين تتدثر بهوى الطالب- حيث تسمو بها ليخفق سعادة ذلك التلميذ أو تواريها قاطفة للطالب ما هو أجدى لمن حاد السبيل: (إذا نصر الرأي بطل الهوى). (وعليك دوما بالصواب يا بني فإنه يسعد البعض ويدهش البعض الآخر. وحين تجده فتمسك به ودافع عن حقيقته لكن إياك أن تظنه الصواب الأوحد فربما غيرك وجد ما هو أصوب منه).
عين لماحة برياح الفتور حين تجثم على أحدنا، فتستدعيه هامسة: في دخولك جنة العلم تكون قد رميت اليأس خلفك وأول نجاحاتك هي البداية التي اجتزتها. كما أن (السعادة كالثروة لن تستمتع بها حقا دون أن تعمل بنتاجها). خذ مقعدا حال فتورك أو إجهادك واجلس مستمتعا بمشاهدة مركب الناجحين فمشهادة النجاح نجاح. واستأنس بمقولة رايموند إينمون: إذا أعجزتك فكرة ما فاذهب لتتمشى فالملائكة يهمسون للرجال عندما يمشون. احتفل وأسعد نفسك تكافئك بكنونها وأسرارها. كما أن الملاحظة المستمرة وحدها يمكنها تقديم الكثير لك فلا تعدم إياها. وحذار من الإحباط حين لا تصل للكمال؛ فتتالي الليل والنهار يخبرنا أن الكمال لم يصل له أحد.
عين ثاقبة بالوتيرة حين تنساق إلى التقليد أو يغيب النَّفَسُ العلمي من حروف العمل وتشيخ التطلعات؛ تستحثه قائلة: انطلق ياهمام وارم بصرك تجاه السماء أما ترى الطريق إلى النجوم مفتوحا! وطالما اخترت طريق العلم فإياك أن تظن أن أحدا من هؤلاء البشر قادر على إعاقتك ولو كانت محبرتك تحت وسادته. نعم عليك باحترام الثوابت لكن ليس إلى درجة تمنعك من شك تتعلم من ورائه)..
عين داعمة: انطلق مُعانًا ولا يكن همك موافقة آراء الآخرين. كفاك سبقا أن تعرف أسبابا لأشياء آمن بها كثيرون دون علمهم بأسبابها. أنت باحث عن حقيقة لذات المعرفة لا لذات الحقيقة التي أدركتها سابقا. وأيقن يا ذاك أن بداية التخبط والانزواء هو محاولة إرضاء كل الناس، وتذكر دوماً أن الحقائق لا تروق للبعض.
تدثر بعلم تتعلمه الآن ليعينك أن تُعلم أبناءك غير ما تعلمت، وتُعدُّهم لزمان غير زمانك، فأنت من سيوصل سفينتهم للجانب الآمن إن فعلت.
عين راصدة لبرق أفكار أحدنا ومزنها حين تجود، معززة مُثْنِيَةً: إذا نهضت خيول أفكارك فإياك وصدّها فإنها إن وهنت شاخت، والفكرة الجديدة دائما رقيقة ربما تقتلها رنة هاتف أو تخنقها شربة ماء.
والفكرة وديعة حين تولد يجب أن تصل لأهلها وعلى صاحبها أن يسلك سبيل الأنبياء في تكبد الصعاب حتى تُؤدّى.
ثم ألا (يكفيك أن موافقيك يَرَوْنك لامست النجوم، وأما معارضوك فيَرَوْنك في السماء وإن كنت دون النجم، وفي الحالين أنت في العلو، وفي العلوّ خير يا بني).
عين مذكرة بأن مغامراتنا هذه من أجمل مغامرات العقل وإن كانت في عالم مجهول. تنادي بنا: انفرد برأيك الآن ولو شذ وسيكون يوما ما له قبول جمعي. اصقله جيدا كي يتحول لمقطوعات يتغنى بها الناؤون يوما ما. ولا تعجل حين معالجتك لآرائك فبعضها تحتاج معها لمطرقة حتى تقومها وبعضها تحتاج معها لقُبلة على جبين طفل نائم كي تعدل مسارها.
عين دافعة بالمزيد فاتحة الأفق: أدركوا النجاح فهو لم يصنع إلا لمثلكم وأحبوا العمل يتحول من عقاب إلى قوة ومتعة ومكافأة. واحرثوا بعمق فقد كفاكم الكسالى احتلال الأسرّة، وحينها ستدركون الفرق بين (الشهرة والنجاح) فالثانية سابحة بين أيديكم فأدركوها تتكفل هي بالأولى. اسبحوا في عالمكم ولو كنتم وحدكم وإياكم واستشعار العزلة في حضرة الكتاب والقلم فأنتم في أمتع رحلات الكون العقلية تكتشفون معها أنكم تملكون أجنحة.
عين جليّة بتدفقاتنا مؤمنة أن الوسائل والخصائص هي التي تحدد الوقت والمكان والنهايات لكل واحد منا. مدركة أن التعلق بها في نهاية المطاف يجب أن يخفت حتى لا يكون كأوله تمهيدا لانطلاق الطالب بأدواته هو.
عين محذرة: إياكم أن تركنوا إلى ذكائكم وتهملوا الطموح أو تقتلوه بالصبر فتكونوا كخيل سباق نادرة ماتت واقفة بانتظار الميادين. زنوا وقوفكم ومسافاتكم عن أقلامكم وإياكم والتباطؤ, وتذكروا أن إطالة الوقوف يعرضكم للسحق ولو كنتم على الطريق الصحيح. عين ناهية من (شهادة التُملك) دون استمرار عمارة العقل بمزيد علم ومعرفة، مرددة قول المنفلوطي: (كل عز لم يؤيد بعلم فإلى ذل يصير).
عين مدركة لحماقات الأسئلة وتفلتها منا: (بعض الطرق مغلقة أو مهجورة لسبب وجيه فدعوها، فوجاهة السبب تكفي).
عين معززة: ما المانع أن تسبقوا من قبلكم كل ما عليكم أن تفتحوا عقولكم فالطير لا تحلق إلا حين تفتح أجنحتها. ودربوا عقولا منحكم إياها الباري، وإن لم تدربوها على أن تتحكموا بها فسيأتي من يتحكم بها غيركم فأدركوها.
عين غائرة في النفس مدركة أبعادها: لكي تسعد أكثر مني قدم لي في كل لقاء أكثر مما أمّلتني. وتذكر دوما أن إنجاز كبار المهام يتكفل بإنجاز صغارها. ثم دوّن صيدك في عملك فهو إفصاح عنه بفخر. تُذَكِّرُ بين الفينة والأخرى بلحمة جزور هارون الرشيد، وتَلْفِتُ إلى رائعة عبد الله الشيتي: الفرص كثيرة، ولكنها تتسكع أمام الأبواب أبداً.
عين خبيرة بصعوبة قفزات القلم من فقرة إلى أخرى قائلة: إن شعورك بعدم الارتياح عند انتهائك من فقرتك هو من سيقودك لخلق الأخرى فلا تقلق.
عين وعين كانت هذه بعض الأعين التي جعلنا نبصر بها، وأتلافى سرد جَلِيُّها خشية الوقوع في شرح الواضحات، شخصية إنسانية بكل أبعادها وأكاديمية بكل حسّها، تشيء بخيراتها أفعالها، فتنأى الحروف لتبدو خاضعة مهطعة عن إدراك شمائله. فجزاه الله عن العلم وأهله خيرا، وغفر له.
** **
د. عبدالله بن حمود بن عبدالعزيز الفوزان - كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بجامعة القصيم
aaf741@yahoo.com