مكة المكرمة - خاص بـ«الجزيرة»:
ارتفعت حالات الطلاق في المجتمع في الآونة الأخيرة بشكل لافت للنظر، وزادت عدد صكوك الطلاق المسجلة إلى أكثر من 57 ألف صك حالة طلاق في عام واحد.
وتؤكد الدراسات والأبحاث العلمية على خطورة ذلك، مع ضرورة سرعة البحث في الأسباب ومعالجتها، ومنها الدراسة العلمية الميدانية المعنونة بـ"ظاهرة الطلاق في المجتمع السعودي " للباحث سلمان بن محمد العُمري، حيث كشفت الدراسة الكثير من الأسباب، ونبهت إلى خطورة ازدياد ظاهرة الطلاق بصورة مطردة عاماً بعد آخر، مما يستوجب تضافر الجهود للإسهام في الحد منها، لما لها من آثار خطيرة على الفرد والمجتمع. وقد كان لأئمة الحرمين الشريفين إسهام في التوعية حول المآلات التي تنجم عن كثرة حدوث حالات الطلاق، والمخاطر المتعددة جراء تزايد الحالات. "الجزيرة" رصدت أقوال عدد من أصحاب الفضيلة أئمة وخطباء المسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف حول الطلاق.. فماذا قالوا؟
العجلة في الطلاق
يقول فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس إمام وخطيب المسجد الحرام لقد كثر الطلاق واستخف به أقوام لأيسر الأسباب، قال تعالى محذِّرًا من التَّعجّل في الطلاق، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) والطلاق المُتعجِّل بُرْكان من حِمَم يَقضِي على كيان الأسرة وأنسِها وقرارها، وسكينتِها واستقرارها، والطلاق المتعجِّل لا يُخصُّ الزَّوجين وحسب، بَل يتعدَّى ضَرَرُه للأبناء، ثم الأسرتين، ثم المُجتمع. لذلك كَرِه الإسلام الطلاق، ونَفَّر منه لعواقبه السَّقيمة، وآثاره المُرْدِية الوخيمة، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق" ، فكم من أسرة بسَبب الطلاق العَجُول ارتكست من الذروة والسَّنام، إلى النَّكد والضّرام، وقد كانت من السعادة كالغرّة في جبين الأيام، مبيناً أن من معاقد الإصلاح في أمر الطلاق؛ لإجلاء مدلَهِمَّات الكروب بين الحبيبة والمحبوب، بعد توفيق علاّم الغيوب، إسراج أنوار العقول الخبيرة الحكيمة، لِتمسك بأرسان العواطف الجارفة الأليمة، وذلك بإرسال الحكمين الكريمين من قِبل أهل الزَّوجين، وأن يكونا من الحُصفاء المهرة، الأزكياء البَرَرة، فما أكثر الجمَاهر، وأقَل المَاهر، قال سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أهلهِ وَحَكَمًا مِنْ أهلهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)، وإن أفضى الإصلاح إلى النُّجح والفلاح، فإنَّه لا يجوز للمرأة الإبقاء على طلب الطلاق، قال - صلى الله عليه وسلم - : "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنَّة" رواه الإمام أحمد وأبودَاود.
ويشير الدكتور عبد الرحمن السديس إلى أن الباحث في أسباب انتشار قضايا الطلاق، لَيَجِدُ أنَّ من أَهَمِّهَا وأعَمِّها: التقصير في معرفة الأحكام الشرعيَّة وغياب التفاهم والحِوَار، وعَدَم الاستماع والإصغاء للآخر، ونَبْذُ التوقف عن المكابرة والعِناد، والتشبثِّ بالرَّأي الجانف والاستبْدَاد، وإقصاء المُصارحة ونفَاد الاصطبار، عند حدوث الزعازع وظهور التنازع، مع طلب المثالية في الأقوال والأفعال، دون اعتبار للفوارق النَّفسية والفكريَّة، والثقافِيَّة، بين الطرفين، ولا يعجل بالطلاق إلا رجُل اتَّبع عاطفته الجامحة فأطاعها، وألغى سلطة عقله فأضاعها.
أيدي العابثين
ويبين فضيلة الشيخ الدكتور فيصل بن جميل حسن غزاوي إمام وخطيب المسجد الحرام أن النصوصِ النبوية تحذر من المخالفات الشرعية المؤدية إلى الطلاق الذي أصبح مشكلةً بذاته حين صار ألعوبة في أيدي العابثين، ومساغاً سهلاً في أفواه المتهورين الذين لا يعرفون للحياة الزوجية معنىً، ولا يقيمون لها وزناً، يتزوجون اليوم ويطلِّقون غدا استخفافا بهذه الرابطة الربانية، وأنه مما يؤسف له أن معدلات الطلاق ارتفعت ارتفاعاً كبيراً في السنوات الماضية، وصار ظاهرةً متفشية، إذ انتشرت حالاته بصورة جلية وأصبحت الإحصاءات والنسب الكبيرة من الطلاق أو الرغبة في فسخ عقد النكاح مخيفةً ومنذرةً بخطر كبير على المجتمعات المسلمة، وعند النظر في الأخطاء والمشكلات الأُسْرِيةِ التي كدرت صفو الحياة الزوجية، وكانت سبباً في وقوع الطلاق نجدها كثيرة ومتنوعة؛ فمن ذلك سوءُ اختيار الزوجين أحدهِما للآخر، مشيراً إلى أن من أسباب وقوع الطلاق ضعف الوازع الديني والتقصيرُ في حق الله، وفي المقابل الوقوع في الذنوب وارتكاب المعاصي واستمراؤها مما يؤدي إلى حصول الشرور والنزاع بين الزوجين ومن ثم الفراق، وعدم تحمل المسؤولية من قبل الزوجين كترك الزوج إدارة شؤون البيت وتوفيرَ احتياجاته وانشغالِه بالجلسات والسهرات مع رفقائه وكثرة الأسفار لغير حاجة وتضييع حقوق رعيته، وكذلك إهمالُ بعض الزوجات بيتَها وانشغالُها بوسائل التواصل عبر الجوال أكثرَ وقتها، وكذلك مبالغة بعض الناس في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وشدةِ إدمانهم عليها وترددِهم على المواقع السيئة من الشبكة، مما أدى إلى مفاسد عظيمة ذاتِ أثر كبير على العقيدة والسلوك ويدخل في ذلك افتتان بعض الأزواج بأن يُعجَب بامرأة غير زوجته ويتعلق قلبه بها، وقد يقيم علاقة محرمة معها فيحتقرُ زوجته ويزهد فيها ويهملُها ثم يطلقها، ومثل ذلك افتتان بعض الزوجات بوسائل التواصل فتقع في خيانة زوجها بمراسلات ومحادثات مع أجانب في الجوال ومواقع الشبكة، وعندما يكشف أمرها تعظم هناك بليتها، كما أن من المشكلات التي قد تتسبب في الطلاق ما يصدر من أفعال خاطئة وتصرفات غير رشيدة في الحياة الزوجية، كسوءِ الظن بين الزوجين والشك المفرط بينهما والغَيرةِ غير المحمودة الزائدة عن الحد، وكتعيير الزوج لزوجته بكبر سنها أو بشيء في خلقتها وكمنع الزوجة من صلة والديها وقرابتها وزيارتهم لغير مسوغ شرعي، وكبخله على زوجته بمنعها الواجب عليه منالنفقة بالمعروف، وذلك يشمل توفير المسكن والمطعم والمشرب والملبس والعلاج والدواء، أما ما عدا ذلك من الكماليات، فلا يجب عليه ما دام أنه قائم بما أوجب الله عليه من النفقة، فمن الزوجات من ترهق كاهل زوجها بكثرة المطالب التي تفوق طاقته ويعجز عن توفيرها.
فتن عظيمة
وشدّد فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف على أن عقد الزواج ميثاق عظيم, ورباط قوي، وصلة شديدة, لقول الله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ استبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)، وقال المفسرون إن ذلك عقد النكاح, وهذا العقد اشتمل على مصالح ومنافع للزوجين، ومصالح للأولاد ومصالح ومنافع لأقرباء الزوجين ومنافع ومصالح للمجتمع في الدنيا والآخرة لا تعدّ ولا تحصى، وأن نقض عقد الزواج وإبطال ميثاقه وقطع حبل الزوجية بالطلاق يهدم تلك المصالح والمنافع كلها, ويقع الزوج في فتن عظيمة تفتره في دينه ودنياه وصحته، وتقع المرأة بالطلاق في الفتن أشدّ مما وقع فيه الزوج, ولا تقدر أن تعيد حياتها كما كانت، وتعيش ندامة ولاسيما في هذا الزمان الذي قلّ فيه الموافق لحالها, ويتشرّد الأولاد ويواجهون حياة شديدة الوطأة, تختلف عمّا كانت عليه, فيفقدون كل سعادة تبتهج بها حياتهم, ويكونون عرضة للانحراف بشتى أنواعه ويتضرر المجتمع بالآثار الضارة التي تكون بعد الطلاق, وتستحكم القطيعة للأرحام وتحصل مفاسد وأضرار عديدة لا تحصى.
وأرجع الشيخ الحذيفي كثرة حالات الطلاق في هذا الزمان إلى أسباب عديدة واهية وعلل واهمة, من أكبرها الجهل بأحكام الطلاق في الشريعة, وعدم التقيد بالقرآن والسنة, مؤكداً أن الشريعة الإسلامية أحاطت عقد الزواج كل رعاية وعناية, وحفظته بسياج من المحافظة عليه لئلا يتصدّع وينهدم ويتزعزع أمام عواصف الأهواء, لأن سبب الطلاق قد يكون من الزوج وقد يكون من الزوجة وقد يكون من بعض أقاربهما, فعالجت الشريعة كل حالة فأمر الله سبحانه وتعالى الزوج أن يعظّم عقد الزواج فقال جل وعلا: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا).
ودعا فضيلته الزوجين إلى ضرورة المسارعة في إصلاح أي خلاف يحصل بينهما في بدايته لئلا يزداد ضرره، وأن من أهم عوامل بقاء الزوجية الإصلاح بين الزوجين من أهل الخير المصلحين حتى يتحقق لكل منهما حقه الواجب له على صاحبه، وأن الصبر والتسامح والعفو تزين به الحياة، ويكسوها البهجة والسرور والجمال، وتندمل به جراح الخلاف في مصاعب الحياة المتعدّدة، مشيراً إلى أسباب دوام الزواج، وأن من بينها تقويم الزواج ما اعوج من أخلاق المرأة بما أباحه الشرع وأذن فيه, لقول الله - عز وجل - (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا).
أصل الحقوق
ويوضح فضيلة الشيخ صلاح بن محمد البدير إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف: إن عقد النكاح أصل الحقوق بين الزوج يلزم كل منهما معاشرة الآخر بالمعروف وألا يماطل بحق وألا يتكره لبذله وتحسين خلقه لصاحبه والرفق به واحتمال أذاه مستشهدا بقول الله تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، مشيراً إلى أن المعاشرة الحسنة والصحبة الجميلة، أقر للعين وأهدأ للنفس وأهنا للعيش، قال تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي خالطوهم وعاشروهم بطلاقة وأداء للحقوق المفروضة من المهر والنفقة والقسم، وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها والميل إلى غيرها وترك العبوس في وجهها بغير ذنب، والله تعالى أمر بحسن صحبة الزوجة.
ولفت الشيخ صلاح البدير إلى أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره فليصبر على ما يكره لما يحب، وقلما أن تجد متعاشرين رضي كل واحد منهما بخلق الآخر فما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن صاحبه، قال - عليه الصلاة والسلام -: لا يفرك مؤمن مؤمنة يعني لا يبغضها لأخلاقها، إن كِرَه منها خُلقاً رضي منها خلقاً آخر، وخاطب فضيلته الأزواج قائلاً: أيها الأزواج أمسكوا نساءكم ولا تبادروا إلى المنازعة والمشاجرة ولا تتعجلوا إلى المفارقة ولا تتسارعوا إلى الطلاق ولا تبالغوا في تصنع الكراهية والبغض؛ فكم من رجل استبد به الطيش وأخذه الغضب وحاط به الحمق، وعجل وطلق ثم استرجع وندم وقد فاتته الرجعة وتعذرت عليه العودة، كما خاطب الزوجات قائلاً: أيتها الزوجة المؤمنة، لا تكوني ممن تأكل لما وتوسع ذما صخوبا غضوبا، لا تطيع لزوجها أمرا ولا تبر له قسما، أحسني إلى زوجك كوني قريبة من مودته مسعفة له عند حاجته، ملبية لندائه ودعوته، نازلة عند رغبته ذاكرة لفضله وحسنته، ولا تكوني مسيئة لعشرته ولا تجادليه عند غضبه وثورته، مستشهداً بقوله - عليه الصلاة والسلام - "خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية، إذا اتَقين الله، وشَرُّ نِسائكمْ الُمتبرجاتُ الُمتخيلاتُ"، مشيراً فضيلته إلى أنه إذا كانت الحياة عابرة والأخلاق ملتئمة، لا كراهية وبغضاء حرم على الزوجة طلب الطلاق أو المخالعة في أصح أقوال العلماء لأنه إضرار بها وبزوجها وإزالة لمصالح النكاح.