د. عيد بن مسعود الجهني
النازي هتلر تقلَّد منصب المستشار في بلاده عام 1933 وعلى الفور بدأ الرجل بدعم مكننة التسليح لألمانيا مخالفاً بذلك نصوص معاهدة فرساي التي وقّعت عليها بلاده عقب نهاية الحرب الكونية الأولى وتحديداً عام 1919، وضد نصوص تلك المعاهدة وسع تسليح بلاده وبنى (قوة) مرهوبة في أوربا.
ومع امتلاكه لتلك القوة استطاع ضم النمسا، بل والاستيلاء على تشيكوسلوفاكيا، وتجنباً (لشره) غضت الطرف كل من بريطانيا وفرنسا عن اعتداءات هتلر تلك ظناً من الدولتين أنه سيتوقف عند ذلك الحد.
لكن من يملك (القوة) يصبح عنفوانها لصيقاً بشخصيته فيجعل منها قاعدة صلبة لتهديد الآخرين لتحقيق أهدافه التي حددها غير عابه حتى بالقوى الأخرى المنافسة، لذلك ذهب هتلر بعيداً، ففي شهر سبتمبر 1939 عبر حوالي (1.5) مليون جندي ألماني الحدود البولندية بدعم (2000) طائرة إضافة إلى (2500) دبابة ليحتل جزءاً كبيراً من بولندا.
بولندا هذه التي تستقبل ملايين المهاجرين الأوكرانيين الفارين من حرب روسيا على ذلك البلد، لم يتخلف (ستالين) عن اجتياح الجزء الشرقي لبولندا أمام انتهاكات (النازي) للاتفاقيات التي وقع عليها والعهود التي قطعها على نفسه، في عام 1941 .
أمام تلك الأحداث المتسارعة ليس أمام كل من بريطانيا وفرنسا سوى إعلان الحرب على ألمانيا، لكن الرئيس الأمريكي روزفلت وقف على الحياد من قارته البعيدة عن الصراع ولم يقرر إدخال بلاده في نيران الحرب إلا في الثامن من شهر ديسمبر 1941 عندما هاجم الانتحاريون اليابانيون قاعدة بيرل هاربر بهاواي.
هنا اشتعل هبوب تلك الحرب الكونية الثانية والتي كانت في بلشفيتها وقوة تدميرها للبشر والبنى التحتية والمدن والقرى شراً مستطيراً، لم يعرفه الإنسان من قبل إلا في الحرب العالمية الأولى، التي أهلكت أكثر من (10) ملايين إنسان، أما أختها الكبرى فقد قضت على أعداد من البشر ما بين 50 و60 مليوناً.
هذا بعد أن ارتجت كل أركان الأرض بسبب تلك الحرب فدخلها دول كبرى، لكن ما إن انطفأت نيران تلك الحرب (الشريرة) حتى انحصر نفوذ الدول التي هزمت ومنها الإمبراطورية العثمانية التي فازت بلقب الرجل المريض.
وبعد أن خمدت نيران تلك الحرب بدأ الساسة التفكير في مستقبل أفضل، فكان مؤتمر يالطا الذي خرج من رحمه توقيع اتفاقية بين أمريكا والاتحاد السوفييتي (السابق)، بريطانيا، لتشهد تلك المدينة الروسية الواقعة على سواحل البحر الأسود في 11 فبراير 1945 عملية تقسيم ألمانيا التي بقيت أرضها واختفى (النازي) فلم يعرف أين كان حتى اليوم؟!
لكن الهدف الأهم لذلك المؤتمر هو تنظيم حالة السلم لما بعد الحرب، ومنح الشعوب المحرَّرة من النازية الحق في تقرير المصير، لكن ذلك المؤتمر لم يشر مثلاً إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بل جاء بعده عام التقسيم 1947 وتأسيس إسرائيل عام 1948.
حتى إن مؤتمر سان فرانسيسكو الذي انعقد في شهر أبريل 1945 تحت شعار (السلام والكرامة على كوكب ينعم بالصحة) والذي وافق المؤتمر على ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الجديدة، كان هدفه احتكار سلطة إرادة المجتمع الدولي في يد الدول المنتصرة في تلك الحرب.
لذا فإن التركيز في ذلك المؤتمر كان بين وفود كل من أمريكا، بريطانيا، الاتحاد السوفيتي (السابق)، الصين، فرنسا، وهي اليوم صاحبة حق (الفيتو) البغيض، ورغم أن ذلك المؤتمر يعتبر الأهم في تاريخ السلم والأمن الدوليين، وممثّلو الـ(50) دولة في المؤتمر كان هدفهم وضع نظام دولي جديد، لذا كان عدد الحاضرين (3500) يمثِّلون أعضاء وفود الدول يغطي فعاليات أعمالهم (2500) من الإعلاميين، ليشهدوا جميعاً إعلان ميلاد منظمة جديدة تقوم على حطام عصبة الأمم التي قتلت بقيام النازي هتلر ببدء مغامراته العسكرية.
وما بين تأسيس الأمم المتحدة واليوم قامت حروب عديدة أطرافها بالوكالة أو مباشرة للأسف الدول الخمس أعضاء مجلس الأمن خاصة أمريكا والاتحاد السوفييتي (السابق)، حروب فيتنام، كوريا، أفغانستان 1979 و2001، 1956 ، 1967، 1973، احتلال العراق لدولة الكويت أغسطس 1990، الحرب الإيرانية - العراقية، احتلال العراق 2003، الحروب في سوريا تأييداً لطاغية الشام، الحرب في اليمن بدعم إيراني، الوضع في ليبيا والصومال ... إلخ.
وإذا كانت تلك الحروب راعيها الدول الكبرى ومنها أن بريطانيا صاحبة الديمقراطية منحت إسرائيل أرض فلسطين وكأنها قطعة من أرض تلك الدولة، وهي التي وقَّعت على مؤتمر سان فرانسيسكو بعنوانه (السلام والكرامة والمواساة ... إلخ).
ويمضي التاريخ، بالأمس كانت الحرب الكونية الثانية اندلعت شرارتها من على أرض القارة العجوز ومع إخماد نيران تلك الحرب عاشت أوربا عقوداً من الأفراح والتطور والنماء والرخاء، شاهدة فقط على ما يحدث حول العالم من نزاعات وصراعات وحروب.
هذا ما عدا حروب يوغسلافيا (1991 - 2001) التي أدت إلى انقسام يوغسلافيا وبروز دول جديدة نتيجة لتفككها، ولا نذكر ذلك الحدث إلى وتبرز مذبحة أكثر من (8300) من المسلمين في البوسنة والهرسك خلال أيام معدودة بين 11 - 22 من شهر يوليو 1995 وقد نفذ تلك الجريمة الكبرى جيش جمهورية صرب البوسنة بقيادة المجرم راتكو ميلادتش الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية، بارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية ليفوز بالسجن المؤبد.
واليوم تشهد القارة الأوربية النازحين الأوكرانيين بالملايين لأول مرة منذ نهاية الحرب المدمرة وكأن التاريخ يعيد نفسه، بالأمس تحتل كل من ألمانيا والاتحاد السوفييتي (السابق) بولندا وها هي اليوم تستقبل أفواج النازحين.
والسؤال المعقد هل ستكون بداية الحرب الكونية الثالثة من على أرض أوربا كما حدثت الحروب الشرسة السابقة؟ والجواب أن تلك القارة هي الأساس، فالصراع الآن يدور على أرضها، فإما أن يتحد قادتها ليؤسسوا لسلام عادل أم يذهبوا ومعهم العالم إلى حافة الهاوية.
لماذا؟ لأن الدب الروسي قرَّر اجتياح دولة ذات سيادة وحدد أسباب ذلك وقوته عظمى، وهذه (القوة) تلهم صاحبها أنه صاحب حق، وأنه قادر على (قهر) الآخرين، وهكذا فعل من سبقه ممن ملكوا ناصية القوة.
على الجانب الآخر هناك دول أخرى تمتلك كل عناصر القوة، وهي دول أوربية ومعها القوة الأمريكية (الناتو) ولذا تتحدث كل من السويد وفنلندا مبدية الرغبة في الانضمام إلى هذا الحلف (القوي) طلباً للحماية على وقع أحداث حرب أوكرانيا، وكلا الطرفين الدب الروسي، وأوربا ومعهم الغول الأمريكي يدركون عبر ودروس الحربين الكونيتين السابقتين، ويدركون الدمار الهائل الذي حل بالعالم أجمع!
قادة الدول الخمس وأخص روسيا وأمريكا، قوة اليوم ليست هي التي بالأمس، إنها إذا اشتعلت نيرانها وهبت عاصفتها وثار غبارها ليبلغ عنان السماء، فلن تكون هناك إمبراطوريات أو قوى عظمى أو غيرها، فالخراب والدمار سيكون أقوى من إرادة من قرروا استعمال الأسلحة صاحبة الإبادة الجماعية للبشر والشجر والحجر فهم أول من يصطلي بنيران ذلك السلاح الفتَّاك.
معهد إستكهولم الدولي لأبحاث السلام، وطبقاً لإحصاءات 2021 يشير إلى أن عدد الرؤوس النووية في العالم أكثر من (13) ألف رأس نووي من بينها (3825) رأساً نووياً معداً للإطلاق، وهناك إحصاءات أخرى تقدّر قوة روسيا النووية بأكثر من (8) آلاف وأمريكا بأكثر من (7) آلاف، ناهيك أن دولاً مثل الصين وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل والهند وباكستان وكوريا الشمالية، مخازنها مليئة بالقوة النووية.
إذاً العالم أجمع يقع على برميل بارود ممكن أن ينفجر في أي لحظة، في وقت يتشدق العديد من القادة عن السلام والعدل وحقوق الإنسان ودعم الفقراء والمساكين والشعوب المستعمرة والمحتلة، كالشعب الفلسطيني ولكن نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً.
العدل والسلام وحل النزاعات والصراعات والحروب بالطرق السلمية الذي تأسست بموجبه الأمم المتحدة ومجلس أمنها أصبح لعبة (قبيحة) بيد الدول الخمس صاحبة العضوية بمجلس الأمن، مثلاً أمريكا لم توافق على قرار واحد لمصلحة الفلسطينيين والقدس الشريف، وكأن إسرائيل جزء من أمريكا.
روسيا لم تقف مع قرار واحد يدين مجرم سوريا رغم العدد الكبير من الجرائم الكبرى التي ارتكبها في حق الشعب السوري وبدعم صارخ عسكري روسي وإيراني وسكوت أمريكي.
هذا تطبيقاً للعبة الأمم التي أبطالها الدول الكبرى، أما ميثاق الأمم المتحدة وحق الشعوب في تقرير مصيرها وتطبيق القانون الدولي والإنساني والشرعية الدولية فمحلها مزبلة التاريخ في زمن الدول الكبرى الظالمة.
المهم أن المحرقة النووية إذا حدثت فإنها ستعني نهاية سريعة لعالم اليوم، هذا لأن استخدام تلك الأسلحة نتيجته الحتمية الدمار الشامل للعالم بمدنه وقراه، وانهيار كامل للحضارة الإنسانية التي بناها الإنسان خلال آلاف السنين.
وهذا التدمير سيكون متبادل بين الدول الكبرى إذا ما حدث وستمتد المحرقة إلى دول المجتمع الدولي بأكمله وقد تؤدي إلى فناء البشر.
اليوم لا بد من التحلّي بالأخلاق للحفاظ على الإنسان باني الحضارات، فإذا انقرض البشر انعدمت الحياة على الأرض وساد الانهيار الاجتماعي ومعه الاقتصادي وغابت شمس التنمية المستدامة وحل محلها الإشعاعات النووية الفتَّاكة.
فهل سيستفيد القادة في دول سلاح الفناء، أصدقاء الأمس - أعداء اليوم، من عبر ودروس القنابل النووية البدائية التي احتضنتها الجزر اليابانية لتنتهي الحرب الكونية الثانية؟
هل سيتذكرون عنوان مؤتمر سان فرانسيسكو (السلام والكرامة والمواساة على كوكب ينعم بالصحة).
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة