د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** روت الصحفيةُ الأميركيةُ آن فيدمان 1953- في كتابها: (من كتبي: اعترافاتُ قارئةٍ عادية - 2020م) عن طفولة الروائي الآيرلندي (جون ميغاهرن 1934-2006م) - الذي يوصف بأنه من أهم روائيِّيْ النصف الثاني من القرن العشرين- فقد كانت القراءةُ تستغرقُ وقتَه وشعورَه فلا يدري عمّا حوله، وخلعت أخواتُه حذاءه فلم «يرمش»، وألبسْنهُ قبعةَ قشٍ فلم يتحرك، و»استيقظ» من الكتاب - وفق وصفها - حين أزحنَ الكرسيّ الذي يجلس عليه.. ص 15
** القراءةُ تسبق الكتابةَ وتجاورُها وتخلفُها وتستغني عنها مثلما تمدُّها، ولا متعةَ في كتابةٍ دون رافدٍ قرائيٍ؛ فالقراءة هي المبتدأُ والخبر، وقد مضى شطرُ عمرِ صاحبكم الأولُ في القراءة المرجعية المكثفة، وآن أن يعيشَ شطره الأخيرَ - بإرادة الله - كما بدأ؛ فلم تُثْرِ الأوراقُ ورَّاقَها، وأورثت الكتبُ ترياقَها.
** كذا فكّر وقدّر منذ أنْ انصرم عقدٌ واحدٌ من تعاونه الصحفيّ فلم يُجَبْ، وها قد مضت قرابةُ أربعةِ عقودٍ من الكتابة المنتظمة نشر خلالها رقمًا يصطفُّ في خانة «آحاد الألوف» من المقالات والدراسات، وتنقل فيها بين «هوامش صحفية» و»المعنى» و«الساعة الخامسة والعشرين» و»يوميات الجزيرة» و»الرأي» و»إمضاء» و»فواتح الملفات» و»تقديم الإصدارات»، وأخرى دون عنونة، ومرت الأعوامُ كما تمرُّ الحياة؛ فالشابُ صار كهلًا، والكهولةُ هنا تلطيفٌ للشيخوخة التي لا يسعُها مكانٌ تتوارى فيه، وتجاوز مراحلَ وحكاياتٍ كان أقلُّها كافيًا لانعتاقه أو إعتاقه، واستأذنَ أستاذه أبا بشار، فسوَّفها أكثرَ من مرة، واستمهله زمنًا فاكتملت فترةُ الإمهال وأربتْ، وآنَ أنْ يضعَ نقطةً في نهاية السطر.
** سيقفلُ قلمَه سعيدًا بضمِّ هذه الرحلة والمرحلةِ إلى ذاكرةِ مساراته؛ فقد وعتْ شقاءها وراحتها، ونجاحَها وعثراتها، وتطلعاتها وإحباطاتها، وإذ لم ينقدْ طوعًا حين قدم إليها فإنه يودعُها ممتنًا لفترةٍ زهت فزها بها، وطالت فاستطال بها، متفرغًا - ما بقيت فسحةُ أجلٍ - لإكمالِ أبحاثٍ واستشاراتٍ وقراءاتٍ واسترخاءٍ وانصرافٍ عن أعباءٍ أثقلته فما ناءَ ولا نأى، وكان فيها مديرًا للتحرير الثقافيّ، وكاتبًا، ومحررًا، ومحاورًا، ومجيبًا، وواصلًا مسافات، ومشاركًا في بضع مناسبات، ومعتذرًا عن عشراتٍ، وفي بعضها ما يحبو إليه ذوو المكانِ والمكانة فما جاء طامعًا ويغادرُ قانعًا.
** كتب شيئًا من تجربته الصحفية في (سيرة كرسيٍ ثقافي)، وأزاح أستارًا وأسوارًا لا تمسَّ شخوصًا بأعيانهم، بل مواقفَ بأعمالها، ولعله يستكملُها، وقد يكتبُ دون انتظام، وسيبقى مخلصًا للجزيرةِ المؤسسةِ والصحيفةِ، ولجهازها الإداريّ والتحريريّ والفنيّ والخدميّ، ولكُتَّابها وكاتباتها، ولقرائها وقارئاتها، وسيستعيدُ أنه عاش فيها أجمل الأيام وحقق بعض الأحلام، ويستشهد ببيتين له:
** إن كنتُ أمسَكَ لا تأذنْ بحلمِ غدٍ
أو صرتُ يومكَ لا تبحثْ عن الآتي..
زمانُك التيهُ لا يعدو نداءَ يدٍ
تمتدُّ.. ترتدُّ.. تنسى تلك واللاتي
** ويُكمل بعبارةٍ استعارها - مذ كان طالبًا في المرحلة المتوسطة - للأستاذ مصطفى صادق الرافعي 1880- 1937م رحمه الله:
** (الحمد لله نهايةٌ لا تزالُ تبدأُ وبدءٌ لا ينتهي).
** الحياةُ نصٌ منفصل.