د. محمد بن إبراهيم الملحم
حركات الدعوة للتعليم المنزلي في أمريكا يمكن تقسيمها إلى فئتين الأولى تلك التي تدعو إلى التعليم المنزلي بناء على أسس دينية أو ثقافية حيث لا يريد الآباء لأبنائهم أن يتعلموا بعض القضايا التي تتعارض مع دينهم وهي حركة نشأت في الثمانينيات بقوة من المسيحيين البروتستانت المتشددين بقيادة Dr. Raymond Moore ولذلك سميت حركة «المؤمنين» Belivers ويسمى تعليمهم أيضا «التعليم المنزلي المسيحي»، فهي إذن حركة مسيحية اجتماعية بحتة وتقوم فلسفتها على أن الطفل يتم ترغيبه في هذا التعلم البديل من خلال الثواب والعقاب، وهي ترى أن تعلم الطفل ليس خيارا شخصيا وإنما استجابة لكلمة الرب وأمره وعلى الآباء أن يستجيبوا لذلك الأمر بل إن هذه الفئة تؤيد فكرة الضرب لتأديب وتهذيب الطفل، كما أنها لا تتوقع منه أن يدرك أهيمة التعلم ولكن عليه أن ينشأ وقد تعلم وحفظ المعارف والمعلومات المهمة لتأسيس ثقافته ومعرفته خاصة فيما يتعلق بالدين واللاهوت ثم فيما يتعلق باللغة والمعارف الأخرى.
في التعليم المنزلي المسيحي فإنه يرى أن المتعلمين مذنبون يجب أن يتم تدريبهم من خلال القيم المسيحية، وهذا لا يتأتى إلا من خلال عزلهم وحمايتهم من «التلوث» المحيط بهم خاصة الأقران الذين اكتسبوا الفكر العلماني الذي ينكر قيمة الدين وأهميته والذي كان قد انتشر في فترة ظهور هذه الحركة، كما انتشر معه التفكك الأسري نتيجة لشيوع مبادئ الليبرالية الأمر الذي يهدد القيم الدينية المسيحية والتي تقوم على توارث الدين والإيمان به من الوالدين ومن خلال الأسرة، ولهذا ترى هذه الحركة أن وسيلتها لحماية الأجيال الجديدة هي بعزلهم عن هؤلاء الأقران وتعليمهم من خلال الأبوين فقط. والواقع أن هذه الرغبة الجارفة في إنقاذ الدين أدت إلى تطرف بعض الباحثين من هذا الفريق في تقديمهم دراسات التعليم المنزلي بطريقة متحيزة جدا ومكشوفة في تحيزها، ومتجاوزة لأسس علمية أحيانا في عرض البيانات وتفسيرها. ومن أبرز هؤلاء برايان راي Brian Ray مؤسس المعهد الوطني لأبحاث التعليم المنزلي في ولاية أوريجون بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا التصرف لا يعني أن التعليم المنزلي غير فعال، فالمنصفون من الباحثين وضحوا فعاليته أو على الأقل عدم وجود موانع منه كما يتوقع المتأمل نظريا فيه.
والفئة الثانية تلك التي تدعو إلى «اللامدرسة» Unschooling ويطلق عليها حركة «الشموليين» inclusives وقد نشأت في السبعينيات على يد جون هولت John Holt وهي لا تهتم بالأمور الدينية وإنما بالجوانب المهارية وتشجيع الإبداع الكامن لدى الطفل الذي يمكن أن تدمره بيئة المدرسة بطريقتها الرسمية ومناهجها المركزية لمقدمة بطريقة مفروضة ونظامية. فهي إذن حركة بيداغوجية تستهدف أسلوب التدريس وبيئته وتقوم فلسفتها على استثارة الرغبة الذاتية للتعلم لدى الطفل وليس من خلال الثواب والعقاب كما ترى الحركة الدينية، بل إن الطفل يتعلم منزليا بدافع محبته للعلم والتعلم، وترى أن هذا جزء مهم من «حقوق الطفل» child human rights لضبط طريقة تفكيره وتوجهاته، وترى أن المدرسة لا يمكن أن تستثير هذه الدوافع الداخلية الذاتية لدى الطفل ولا تستثير فضوله العلمي أو تفكيره الناقد والمتسائل، وهذه الحركة لا تدعي أنها «تطوٍّر» التعليم ولكن تنظر لذاتها أنها طريقة أخرى لتقديم التعليم بحيث بدلا من صياغة الأفراد بواسطة المؤسسة التعليمية (المدرسة) فإن الأفراد هم أنفسهم يقومون بصياغة ذواتهم بالتعلم الذاتي الحر، وقد تمثلت هذه الحركة في أول مؤسسة تم تنظيمها في الثمانينيات وسميت هاوس HOUSE وهي اختصار لـHome Oriented UnSchooling Experience network ويُعتقد أن منظري هذه الحركة وباحثيها معتدلون في نظرتهم للدراسات والأبحاث حول التعليم المنزلي فعلى الرغم أنهم يتشاركون مع الفئة الأولى في دعوتهم للتعليم المنزلي إلا أنهم لا يبالغون مثلهم في لي عنق نتائج الأبحاث والانتقاء منها فقط لإثبات صحة دعواهم بتفضيل التعليم المنزلي على التعليم من خلال المدرسة، بل هم يقفون موقفا معتدلا بالنظر إلى هذه الأبحاث والدراسات بإظهار ما قد يكون فيها من علل ونواقص، ويخلصون إلى أن تلك الدراسات إن كانت نتائجها في إظهار تفوق التعليم المنزلي على المدرسي محل ظن أحيانا فإن ما تدل عليه بكل تأكيد هو أن التعليم المنزلي لا يقل عن التعليم المدرسي ولا يحمل معه أية نقائص سواء على الصعيد التحصيلي للطالب أو نمائه الاجتماعي. كما أنهم أيضا يؤكدون على أهمية جودة من يتولى التدريس في المنزل وأن لذلك علاقة مهمة مع تفوق الطالب، وفي حالة كان الوالدان غير متمكنين من المعرفة العلمية المطلوب تدريسها أو غير متمكنين من أسس التدريس والرعاية التعليمية فإن الطفل قد لا يحقق نفس النتيجة التي يققها لو كان في المدرسة مثلا. هذه الواقعية في رأيي ضرورية ومنطقية ولا يمكن قبول مبدأ أن هناك صيغة تدريسية جديدة غير المدرسة ستغفل جانب جودة الخبرة لدى من يقدم المعرفة للطالب.
** **
- مدير عام تعليم سابقا