د.محمد بن عبدالرحمن البشر
العشر المباركة في شهر رمضان الكريم يجتهد فيها المسلمون، فأقرب أن يكون فيها ليلة خير من ألف شهر شهر تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، وهي أيضًا كلها سلام وخير وبركة حتى مطلع الفجر في اليوم التالي لهذه الليلة، وهي ليلة نزل فيها القرآن وميزها الله عن سائر الليالي والأيام، والمسلم يجند فيها طاقته أملاً أن يصيب تلك الليلة وقد اجتهد ودعا ربه، آملاً من الله القبول، وتلك الليلة أحرى بأن يتم فيها قبول العبادات من صلاة، وزكاة، وصدقة، وصلة رحم، ودعاء، وغير ذلك من سائر العبادات، وهي خير ليلة من ليالي شهر رمضان، بل من الليالي كلها، وفي المدة التي امتدت لأكثر من 1400 عام استمر المسلمون في إعطاء العشر الأواخر من ذلك الشهر الكريم اجتهاداً خاصاً في الصلاة، والصدقة، والبر بالوالدين، وفي قراءة القرآن، وفي دعاء الله سبحانه وتعالى، رجاء بما عنده، والمسلم يفعل ذلك في السجود، والركوع، وأيضًا في كل لحظة من لحظات تلك الليلة المباركة، وقد يوافق الدعاء باباً مفتوحًا في ليلة كريمة يفتح الله بذلك على المسلم خير الدنيا والآخرة، جعلنا الله وإياكم من المجتهدين في هذه الأيام والليالي العظيمة، وتقبل دعاءنا، وصلاتنا، وقيامنا، وصيامنا، ووفقنا على عمل العبادات تقربًا لله سبحانه وتعالى. اختلف الناس في استثمار هذه العشر المباركة من الشهر الكريم، فهناك من يقضي هذه العشر المباركة معتكفاً في المسجد الحرام، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في بيته، وهناك من يقضي العشر الأواخر منصرفاً عن لقاء الناس، مقتصراً خروجه من المسجد إلى البيت، حتى يستثمر وقته في هذه العشر المباركة في العبادات، وهذا الأمر يسلكه الكثير من الناس، وهناك أيضًا من اجتهد في إخراج الصدقات والزكاة في هذه العشر المباركة، إضافة إلى انصرافه عن الناس إلى العبادة، مجتهداً فيما أقدره الله عليه من صلاة ودعاء وغير ذلك، والاجتهاد في هذه الليلة المباركة أمر حث عليها الشارع، لكن أيضًا على المسلم أن يدرك أن العمل الدنيوي الذي يتفق مع الشريعة الإسلامية، هو في ذاته عبادة، وربما يصيب به المسلم خيراً كثيراً قد يكون أقرب في القبول من رب العالمين، لأن العمل والإنتاج والمساهمة في عمارة الأرض من أعظم العبادات. لا أحد يعلم أي ليلة من ليالي العام تكون فيها ليلة القدر، ولكن الأحرى أن تكون في شهر رمضان المبارك، والأقرب أن تكون في العشر الأواخرمنه، والأكثر تحرياً لها في الليالي الفردية من العشر الأواخر، وهناك من يكاد يجزم أن الأقرب وقوعاً لها في الليلة السابعة والعشرين من الشهر الكريم، وهم الأغلب، ولهذا يضعون لها ترتيباً خاصاً، حيث ينصرفون من غروب شمس نهار اليوم السادس والعشرين من الشهر الكريم إلى العبادة وقراءة القرآن حتى أذان الفجر، ومنهم من يعتكف تلك الليلة، وفي بلاد إسلامية أخرى يفعلون ذلك في الليلة الحادية والعشرين، أو الثالثة والعشرين، متحرين لها في تلك الليالي المباركة.
مما يلاحظ في هذه العشر المباركة سرعة مرورها، لانشغال الناس فيها بالطاعات، فما تكاد تحل حتى يشعر المرء أنها انقضت، والناس تتسابق فيها بفعل الخيرات، والمساجد عامرة بالأصوات، سواء في أول الليل أو آخره، حتى وإن اختلف الأئمة في عدد الركعات، والآيات، التي تُقرأ في كل ركعة، إلا أن الأغلب يحرص على أن يختم القرآن في الليلة التاسعة والعشرين، وهذا -فيما أعلم- اجتهاد درج فيه الناس وألفوه، حتى كأنه من فروض أو سنن الشهر الكريم، ولم يرد ما يحث على ذلك، والاكتفاء بعدد من الآيات مع التدبر والتيسير -في ظني- أنه أولى، ومن أراد الاستزادة يمكنه فعل ذلك في منزله، والاجتهاد في الخير فضيلة ومربح. جعلنا الله من المقبولين، واعتق رقابنا من الجحيم، وجعله شهر رحمة وبركة.
وطالما أننا نتحدث عن شهر رمضان الكريم، وهو شهر قراءة القرآن، وأيضًا التفقه في الدين، فقد رأيت أن من المناسب الإشارة إلى صحيح البخاري، ولقد سألت أحد علماء المخطوطات المشهورين الأخ العزيز الكريم رئيس الخزانة الملكية المغربية الأستاذ محمد بنبين، وأيضًا أحد العاملين معه وهو الأخ الكريم الدكتور الخيالي، عن أقدم نسخ مخطوطات البخاري وتزودت بما أمكننا التزود به، وسألت أيضاً الأخ الدكتور الشريف إبراهيم الهاشمي الأمير، فأرسل إليَّ -جزاه الله خيراً- مبحثاً مفيداً للأستاذ محمد النحال، وفيه أقدم نسخ وقعت تحت يده ومنها نسخة قد تمت كتابتها في شهر رمضان الكريم في عام 392 هـ وهي لعبد الله الأصيلي عن أبي زيد المروزي، وعليها سماعات كثيرة من علماء في مصر، والأندلس، وغيرها، من علماء الأندلس ابن بشكوانا وابن دحية، وهذان العالمان قد قرأت عنهما، وفي المبحث إفادة طيبة لا سيما أنها صادرة من مركز السنة والتراث النبوي للدراسات والتدريب في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، وبعض من العلماء يحرص على أن يظهر عمله في شهر رمضان، لأنه موسم عبادة، والاهتمام بالعلم من العبادات، نفعنا الله وأياكم بما علمنا، وعلمنا ما جهلنا.