الخمول والكسل الذي يجتاح رتابة حياتنا اليومية، ليس زهدا في الحياة أو انعدام الرغبة في العيش، لكنه ألم في النفس انطفت معه المباهج والشغف، تشعر بظلال الموت تحيطك، تجعلك تذوي وربما تنتهي، وبالرغم من ذلك كله فإننا لا نزال نستمتع بالقليل الذي تهدينا إياه الحياة، ثمة تناقضات نعيشها بين متلازمة الرغبة الشديدة في الحياة وفرط تمسكنا بها، وبين انطفاء الروح الذي يعيق حركتك حتى عن النهوض من كرسيك، تصاب معه بثقل شديد ويأبى النوم أن يخفف وطأة الحزن الذي تلبس قلبك، حُفر الحزن بقلبي بعدما أنهيت كتاب (عبدالرحمن العمرو الألفية لا الأبجدية)، والتي كتبها ابنه عن مسيرة حياة والده غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، شعرت بالأسى البالغ الذي يختلج النفس، وشاطرت هذه الأسرة المكلومة وجع الفقد، لم يجمعني بهم قربى، ولم أعرفهم ذات يوم، ولا لي معهم سوى كتاب وسطور جعلني أعيش بينهم، وبين أكناف قلبي سيرة والدهم، فطبعت صورته، سبحته، قرآنه، سجادته وبقايا أوراقه بعقلي، ثمة أشياء له رأيتها استدعت كل شعور غُيب وراء جدران الذاكرة، رائحة منبعثه من سيرته اثقلتني وطرقت باب المواجع في روحي، قرأت سيرته هروبا من فجيعة موت جدي لأفجع برجل آخر، من نفس جيله وتوفي بنفس عمر جدي، انفرط العقد بوفاتهم ، لم يكن أمرا هينا أن ترى جيلا عظيما يتوارى خلف الزمن بطريقة تنتزع منك روحك، إلا أن الخريف ينبئك بنهاية كل شي، وسقوط للأوراق ورقة تلو الأخرى، كآبة تأتي مع نهايته، ليأخذنا الشتاء بين أحضان الرحيل، يعانقنا بنبرة الريح القاسية، ستمضي الحياة، إلا أنها ستمضي دون أصواتهم، والإحساس بروحهم التي تطوقنا بدعواتهم المباركة، لطالما كانت أصوات ترحيبهم معنا بدفء بالغ، إنهم الأمان الذي نشتاق إليه.
في ردهة الروح ثمة فراغ، وبقايا غبار تذروها الرياح، محموم صدري لبعدهم، اطفو بين عالمين من التيه وعمقين من الضياع، غمَ يلامس الروح من الداخل، والظلال المعتمة لفقدهم ألقت بكآبتها على قلبي، ضحكاتهم صداها في تجاويف صدر اعتراه الحزن، برغم ذلك أدركت أن كل ألفاظ الوداع مرة، والموت مر، وكل شي يسرق الإنسان من الإنسان موجع و مر، ولولا ربط الله على القلوب وقت المحن لذهبت العقول، دوائر الحياة تدور بطريقة عادلة والكل تطوقه دائرة غامضة لا ينفك عن التفكير بها، فلكل منا نصيبه من الحزن والوجع، ما أطول الزمن وما أشد وطأته حينما تقاوم مشاعرك، مغالبة الضيق هو أمر أشد ضيقا من مساحات الأسى كلها، كلما حاولنا أن نتنفس الحياة بعمق، نجد غصة تسد شريان الحياة في قلوبنا، قرأت واكملت القراءة والدموع تغالبني، صوت الأستاذ عبدالرحمن الذي سكن الأحياء العتيقة، وقصة كفاحه التي تهز ضلوعك، طموحه الذي تمرد فيه على شظف الحياة، وصنع لنفسه مجدا خاصا به كأنه يعيش بمعزل عن قسوة الأيام، طفل صفعه المعلم، وجعله يهرب ذات يوم ؛هو ذاته الطفل الذي لم تحركه العقدة للانتقام بل أصبحت دافعا لإن يصبح معلما يتسامى عن الهفوات، رسم لنفسه خطى ثابته من السكينة لا يحيد عنها، يرى نفسه ونجاحه وفشله بعيون طلابه، يقيس المسافة بين الخوف والرهبة في تعامله معهم، فكان لهم ملهما مربيا تجاوز عن نشوة السخط والغضب التي تعتلي ذكرياته، ولم يكترث بتلك الندبة التي تركها معلم الكُتاب في صدره، بل كلما رأى مواطن الخلل والعطب حاول إصلاحها بحلم وأناة.
ارتشفت قهوتي على مهل، حينا تغالبني الدموع وحينا اتلذذ بمشاعر التأمل والهدوء المنبعثة من بين اوصافه، رجل مهاب لم يتخاصم يوما حتى مع ظله، تحتشد الكلمات لتكتب لو كلمات بسيطة عن مسيرة هذا الراحل العالم الشيخ الجليل، لكنها تتبعثر فتصاب بعجز يغلق شرايين الكلمات وأوردة المفردات؛ فكيف لا تصاب بالعجز وهي تتحدث عن رجل روض اللغة وانقادت الجمل طائعة له، وأخرج كنوزها من الغياهب واستسلم طلابه لبديع شرحه، ليرووا لنا عنه طرائف تسر المحزون، ولطائف رقيقة تتحرك لها النفوس، وأشعاراً ذِكرها وشرحها يتدفق أعذب من الماء الزلال، فتلامس شغاف أرواحهم، مواعظ ونفائس من الحكم تنثال منه كأنها درر من ياقوت منثور.
مال رأسه لليمين، يمنَ الله كتابه، ولم يسقط كأس الشاي من بين يديَ ذلك الأديب احتراما وإجلالا له، حرك أصبعه بحركة دائرية، يقول لي قلبي وإن لم يكن مصيبا؛ يوصيكم بأن لا تخرجوا عن دائرة اجتماعكم ولا عن الهالة التي أحطتكم بمودتها ورحمتها سنوات، ودوروا حول بعضكم بدائرة من القرب والعطف والرحمة إلى مالا نهاية، ليستمر بعضكم لبعض عضدا، عند بداية أصبعه رسم مندوحة الدائرة، ليوصيكم أن تتحلقوا حول بعضكم.
** **
- حلا الفهيد