ما بين الجنس والنوع:
شكلت بنية القصير جدًا حالة انتماء مركبة، ففي الوجه الأول نجد أن منظومة السرد تؤكد أنها بنية سردية، وهنا يكون الانتماء إلى نوع من أنواع السرد عبر البعد الإشاري والعلامي والدلالي يؤكد على وجوده داخل النظام السردي،ولا يمكن أن نختلف على المجازات اللاحقة ببنية السرد، فمثلًا المقطع الوصفي سيان إن كان في جنس القصة القصيرة جدًا يرى بالعين المجردة أو عبر أداة توضيح وتكبير تؤهله لنا بصريًّا، وأيضاًيتحقق ذلك دلاليًّا، ولا يمكن للسرد أن يتجاهل مهمة الوصف الجديرة ودورها في سد ثغرات سردية، والنظام السردي كما يرى جان جانيت يلتزم مقطع الوصف كمًا أي وحدة من وجداته، إذن نتفق على أن النوع القصصي الثالث وهو القص القصير جدًا مؤهل عبر النظام السردي كنوع من أنواع القص، أما الوجه الآخر لهذه المسألة، وهو الذي نسلم به على اعتباره ليس وجهة نظر، بل منهج علميًّا رصينًا، حيث يشكل القص القصير جدًا هنا عبر الأثر المبذول كجنس ثالث عبر إطار التجنيس، وهذا الوجه أرجح قوته على الوجه الأول، ولدينا نتاج يدل على الوجهين بثبات نوعي، حيث يمثل نسق كتابة حسن علي البطران، حيث تشكل مجموعة – ناهدات ديسمبر – ، حيث نجد أغلب القصص بل نقر بأن جميعها تمثل وحدات سردية، ومنها من التزم بوصية جان جانيت فمازج بين السرد والوصف، وهنا أصبحت منطقية الوجه الاول كاملة، ويعني أننا امام نوع من القص ميز نفسه مفهوميًّا فكان القص القصير جدًا، ويقابل ذلك المنطق الوصفي منطق أدق وأرصن، وهو يرتبط بالأطرالعلمية لمنهج الكتابة القصصي، حيث جميع القصص تعتمد سمة التجنيس المحدد عبر إطار الكتابة، فأكدت أنها تنتمي إلى جنس القص القصير جدًا وليس فيها مادة دخيلة عليه، بل إن التنوع في أشكال الكتابة زاد من سعة وعمق أفق هذا الجنس القصصي الشيق، وهناك تفاوت مساحات مثلته العديد من القصص، فمنها تعددت أسطره ومنها لم يبلغ سطرًا واحدًا، لكن إطار الجنس تكفل كل تلك التنويعات في بنية الكتابة، ولقد استهل القاص الكتابة بنموذج أوسع من اللاحق له، حيث قصة – سلمى – والتي اتخذت من اسم شخصية عنونة لها توازت بها مع المتن وتعالقت أيضًامعه، واردف المستهل القصصي بقصة – جنازة – والتي هي مبنية للمجهول عنونتها وهذا ما يزيد ويوسع المضمون القصصي لدى التلقي العام خصوصًا، اذا اعتبرنا أن التلقي الخاص يدرك أن العنونة فخ كما قال الجاحظ ومن بعده جان جانيت، وهذه القصة تمثل النوع اضامر من القص، والذي تميزت أطر كتابته في مجازات ما بعد الحداثة النوعية، وفي قصة – تلونألم – التي تتيح للبعد الحواري أن يدخل في بنية القص لغرض دعم فكرة القصة وتأهيل النهاية البديلة، وفعلًا نجح الحوار للقصة وميز نهايتها البديلة، وأيضًا في اللسانيات الاجتماعية كان هناك من الخطابات الحضارية انتهت عبره القصة بتلك الصيغة الاستثنائية، والقصة أيضًا عبر التفسير النوعي لصيغة الكتابة أكدت لنا أن النوع السردي يحتمل الحوار مثلما يحتمل الوصف، وايضًا دلت لنا على التزامها بالمنهج القصصي وإطاره، وفي قصة – ظل – حيث المستوى الفكري أكد لنا وجود إشكالية، لكن قد احتمت بحالة من التبئير، بيد أن النهاية البديلة عرت كل شيء بصدمتها المفاجئة، أما قصة – خلف الحرارة – فقد اهتمت بتفسير المعنى الإنساني عبر واقع ملائم له، لكن فجأة تغير إيقاعها عبر نهاية بديلة للنهاية التي جعلتنا نفترضها منظومة السرد، والتحول الإيقاعي السريع من روح المسالمة إلى حالة الغدر أو القتل المفاجىء, قد رفعت من منسوب القصة الحسي, وشكلت قصة – أمنية درويش – حالة من التفسيرات الملحة في الظروف السياسية الحالية التي يمر بها العالم، حيث تتغير الخطابات وكما أكدت لنا النهاية البديلة المتمكنة بجدارة فكريًّا وتقنيًّا.
جنسانية القص الضامر :
شكلت آفاق الكتابة القصصية القصيرة جدًا تطورات عديدة، وتحولت من منعرج إلى آخر، حيث تدرج المفهوم القصصي من أفق ضيق إلى أفق أوسع بكثير, وتغير الفهم الثقافي هنا للقصة القصيرة جدًا, حيث اشتملت على مفهوم أرحب وأعمق أيضًا، حيث شكلت التحولات صراحة نوعًا من الفهم المستحدث، وهذا الفهم تنوعت وجهات النظر فيه، فمنه من يتوافق مع خلاصة مفهوم التجنيس والنوع القصصي، وآخر يبتعد تدريجيًّا فمنه من وقف على حد قريب داخل مدار المفهوم ومنه من خرج بعيدًا وبدأ يتعكز على فهمه الخاص القاصر، وصار يدخل في أفق النص دون إطار تجنيس، ولا اعتماد واقع سردي لكتابته، والكتابة المحلقة كليًّا تنفي انتسابها لجنس القصة القصير جدًا، حيث لا واقع ولا حدث ولا فكرة يتبناها السرد، ونتجنب الغور في هذه الفكرة، ونشير إلى أن الشكل القصصي نتيجة استجابته لروح العصر قد ضمر تدريجيًّا، وقد أشار همنغواي في قصة قصيرة جدًا ضامرة له، على أن هذا الجنس سيكون رواية المستقبل، وهذا النوع من الكتابة قد غيّر التفكير الثقافي لجنس القصة القصيرة جدًا من جهة، ومن جهة أخرى فتح آفاقًا مضافة لفن كتابة القص القصير جدًا، ونجد قصص حسن علي البطران – ناهدات ديسمبر – قد قدمت لنا احد الأمثلة المعتبرة لهذا النوع من الكتابة في شكله الضامر، حيث نجد لسانيًّا قد توفقت اللغة القصصية في اختزال التعبيرات من جهة،واستعارة ما يدعم الموضوعية القصصية من جهة أخرى، وقد تنوعت إيقاعات القصص حسب مساحة الشكل القصصي البياني، وتعددت المعاني والمفاهيم الاجتماعية من نص قصصي إلى آخر، فمثلًا قصة – اجتهاد – قد اجتهدت في خلق ضمور واضح في حجم القصة العضوي, كما أنها لم تمهلنا طويلًا بل بسرعة البرق اتجهت نحو النهاية البديلة، أما قصة – خيانة مبطنة – التي تتوازى تمامًا مع عنونتها، بل كل منهما يمثل نصًّا في التفسير الذي أحالتنا غليه تلك القصة الضامرة جدًا، لكن تفسير تلك القصة الفني لنفسه يدخل في جانب من الإقناع والموضوعية، وصراحة تلك القصة من أبرع النماذج القصصية في مضمونها الذي نجده صيغ ببراعة تلقائية ودون أدنى تكلف، والمحتوى القصصي الذي عبرت عنه ثلاث كلمات في التفسير المضموني يحتاج إلى رصيد كبير من الكلمات، وهذا نوع من الاستثناءات الجديرة والتي ببلاغة نوعية، وأرجح تلك القصة إلى تسيد المجموعة واحتلال الموقع الأفضل كفاءة والأجدر نوعية، وتلك القصة ترجمت لنا في ثلاث كلمات عالمهالعميق والواسع .
مثلت قصص مجموعة – ناهدات ديسمبر – لحسن علي البطران عدة مستويات صوتية، وبعدة مفاهيم اجتماعية، وكل مفهوم التزم معنى ما، وتلك المعاني لم تأت من أفق واحد، بل تعدد الآفاق وتنوعت واختلفت وتوافقت ايضًا، وكان لكل أفق مجاله الاجتماعي في أحد المظاهر الاجتماعية، ومنها من لامس حدودًا نفسيةً عميقةً في توصيفها، فقصة – مقابلة – أحالتنا إلى نمط من المشاعر البشرية يسعى للتوافق مع قبيله، لكن ذلك القبيل قد تخلى، وبذلك أتاح للنهاية البديلة تغيير مشاعرنا تجاه النص، وأما قصة – امتداد – فهي جديرة ومثيرة, فهي جديرة فكرته بالضمور الذي عادة ما يتناسب مع الشخصية الأحادية, وكما هناك أثر نفسي عكسته لنا القصة ببلاغة نوعية, حيث كسبت نهاية تعاكس فكرة الحدث الضامرة جدًا، وهناك نماذج أخرى تدل على الضمور من جهة، وعلى الاتساع الفكري من جهة أخرى، وقد قدمت لنا تجربة حسن علي البطران في القص القصير جدًا اعتبارات نوعية من المهارة والمقدرة.
** **
- محمد يونس محمد