أشار ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إلى أن التاريخ «علم»، وليس سردية ساذجة. وهذا ما أدى فيما بعد إلى اكتشاف أن للتاريخ «بوصلة»، ومحدِّد اتجاهات تلك البوصلة هي الصراع بين الظالم والمظلوم أو الغني والفقير... إلخ. ولكن الغلبة ليست دائماً وحتماً لصالح طرف من الأطراف المتصارعة.
الشواهد على انحراف البوصلة كثيرة، وللتذكير لا بد من ذكر بعضها: فالحركة الصعلوكية دامت لقرنين من الزمان تقريباً قبل ظهور الإسلام، وكانت تعتمد على «بوصلة» منحرفة عن الاتجاه الصحيح! حيث كان الصعاليك يسرقون من الأغنياء ليس لثرائهم الخاص، إنما ليوزعوا الحصيلة على الفقراء. ثم جاء الإسلام «ليصحح البوصلة» المعوجة تلك؛ وينشئ دولة مركزية؛ جعلت من الاقتصاد الرعوي مجرد مكمل للاقتصاد الزراعي الأساسي. وقضت بذلك على التمزق القبلي العشائري والتنازع على المراعي؛ واعتماداً على الزكاة المأخوذة من التجار «الأغنياء» مولت أجهزة الدولة الحديثة في ذلك الوقت؛ وحققت استقلال تلك الدولة ضد الروم في الشمال والفرس في جنوب الجزيرة العربية!
لقد كان الفقراء هم حطب التغيير في كل مفصل من مفاصل التاريخ. واعتماداً على تضحيات الفقراء جاءت الأديان السماوية والثورات المتتالية لتحقيق العدالة الاجتماعية! وإذا كان بعض تجار مكة قد ناهضوا الدعوة الإسلامية في البداية، فقد آزروها عندما رأوا - طوعاً أو قسراً- مقدار الازدهار الاقتصادي الذي أحدثه الإسلام.
بيد أن الشاهد الأحدث تاريخياً في انحراف البوصلة هو التجربة الستالينية السوفييتية! حيث كما الصعاليك أنكرت تلك التجربة المقيتة «بوصلة» التاريخ، وأرادت أن تقود الناس بالعصا إلى الجنّة. وقد استغلت المافيات الإعلامية الرأسمالية هذه الثغرة في تشويه التجربة والنظرية معاً. ودخل اليسار العالمي كله بعد سقوط التجربة في حالة قنوط. وتفككت بعض قواه الفاعلة. والأنكى من ذلك أن بعض الدول الرأسمالية التي كانت مناهضة للاتحاد السوفييتي السابق؛ شعرت بالإحباط هي الأخرى بسبب فقدان توازن الأقطاب؛ الذي كان يمنحها شيئاً من الاستقلالية إزاء تفرد جهة واحدة بالقرارات الدولية.
إنني أشعر أن سقوط الاتحاد السوفييتي السابق كان ولازال «نعمة» على البشرية كلها! حيث عرض كفيلم سينمائي ماذا تعني أحادية القطب. وأسس إلى «فلاديمير» جديد عوضاً عن لينين يصحح اتجاه البوصلة بعد ما فعلته الستالينية! واستيقظ «اليسار» الأوروبي فجأة؛ ليجد نفسه في موطن الثورة الفرنسية - الأوروبية - العالمية الشهيرة؛ أنه ليس يساراً واحداً؛ وأن هناك تيارات مافيوية قذرة؛ تقدم نفسها على أنها يسارية؛ ولكن زعيم اليسار الفرنسي وقف بكل شجاعة؛ وقال بحرقة العاشق: سنعيد تصحيح اتجاه البوصلة؛ ولن نسمح لمزيد من اليمين للتحكم بمصير فرنسا. وهذا ما سينسحب على اليسار الأوروبي كله، بل اليسار في العالم أجمع.
تصحيح البوصلة أدى إلى سقوط الأقنعة كلها؛ وحتى التاريخية منها؛ حيث لم يعد هناك قناع لمن لبس «القبعة السوفييتية» سابقاً؛ وباع قضيته بتوقيع اتفاقية الذل والاستسلام المسماة «أوسلو»! بل سقطت الأقنعة حتى عن الفن الهابط الذي يُخْرِج «بيت القصيد» عن رسالته وسياقه التاريخي!.
** **
- د. عادل العلي