د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
هذا سادن من سدنة اللغة العربية، جمع بين علوم الأوائل فكأنه من علماء اللغة في القرن الرابع والخامس ومع ذلك يخاطبك ويكتب بلغة المحدثين، لم يكتف بعلوم العربية بل أسعدها بمعرفة العلوم الشرعية، فكان بذلك كالأصوليين، ولم يكتف بالتعليم الرسمي الذي تقتضيه الوظيفة بل تصدر لتعليم النحو والصرف في المساجد، فأقبل على دروسه طلاب العلم إقبالًا، وحرصوا على جمعها وإخراجها في كتب مطبوعة، وهي كتب عديدة توخى في بعضها التيسير والاختصار، ومن أهم أعماله عمله الضخم عن حواشي شروح الكتاب، والشيخ الفاضل لم يكتف بكل هذا الجهد المضني بل جعل للناس قناة على المغرد يفتي فيها فيحسن الفتوى، وهو لتواضعه وسعة صدره يصبر على العنت وسوء فهم العامة.
ليس بالطاقة الإطافة بأعماله كلها؛ ولذلك سأجتزئ بأن أقف القارئ الكريم على خمسة من أعماله الجليلة.
1- تحقيقات في ترجمة ابن مالك النحوي (ت672) لا يختلف اثنان في أن ابن مالك من أهم نحاة العربية، فإن يكن سيبويه مدوِّنَه الأول فإن ابن مالك هو المدون الثاني بما اختاره للناس من جهود سابقيه وسبكه ثلاث مرات في منظومتين ومتن نثري كالمنظومة إحكامًا، وهو تسهيل الفوائد، وعلَم كهذا يتطلع كل دارس إلى معرفة تفاصيل حياته وأن يقف على حقائق سيرته، ولكن سيرته نالها شيء من الغموض، ومن هنا تأتي تحقيقات الدكتور سليمان العيوني لتكشف جوانب من ذلك الغموض وتسدد بعض الثغرات، ومن يقرأ البحث يتبين له بجلاء المعاناة التي عاناها الباحث في تتبع سيرة ابن مالك والصبر الذي صبر نفسه معها، ثم صاغ الباحث عمله صياغة محكمة ملتزمة بأصول المنهج العلمي وقواعده، ومثل هذه الأعمال ربما كانت مظنة الإملال غير أن الباحث أبان ببراعة وجمال عبارة عن عمله فأمتع القارئ بعمق معالجته العلمية ووفائه بمفردات الموضوع، وجاء حديثه عن سيرة ابن مالك حديثًا جامعًا بين الفائدة والإمتاع، وكُشف له من الجوانب المجهولة ما يُعدّ بحق إضافة علمية قيمة فاعلة في حقل النحو والصرف، تناول في الفصل الأول تحقيق سلسلة نسب ابن مالك لما رأى اضطراب بعض المترجمين في ذكر تلك السلسلة، وعالج في الفصل الثاني تحقيق زمن هجرته من الأندلس إلى المشرق وزمن رحلاته العلمية ليبين أيمكن عدّه نحويًّا أندلسيًّا أم يمكن عدّه نحويًّا مشرقيًّا، وأما الفصل الثالث فخصصه لتحقيقات في مذهبه الفقهي وبعض شيوخه وبعض تلامذته وعدد أبنائه.
وتبين من عمل الباحث النابه أن ابن مالك اسمه محمد بن عبدالله بن عبدالله بن مالك، وأنه هاجر من الأندلس قرابة 620هـ وعمره قرابة 22عامًا، وتتبع رحلاته في بلاد الشام، ورأى العيوني أنه على الرغم من درس ابن مالك الفقه الشافعي فيه ميل إلى الظاهرية، وكشف العيوني عن تسعة تلاميذ لابن مالك لم يرد ذكرهم في تراجمه، وبيّن أن له ثلاثة أبناء، بدر الدين، وتقي الدين، وشمس الدين. وسيلحظ القارئ أن العيوني يتصف بظهور شخصيته البحثية في أثناء البحث وتمكنه من موضوع بحثه، وتحلى بتواضع محمود إذ تراه يصف عمله بالمحاولة، ويردد قوله
(سيحاول) وقوله (يغلب على ظني). وأما مصادر العيوني في عمله فطائفة كبيرة من المصادر والمراجع الأصيلة، منها المخطوطات ومنها الرسائل العلمية ومنها المطبوعات، وكان دقيقًا في توثيقه أمينًا في نقله. وتتصف لغته بالسلامة العالية والوضوح وحسن السبك وعنايته بضبط ما يلزم ضبطه من غير إسراف.
2- سيرة ألفية ابن مالك (تأليفًا وإبرازًا وتحقيقًا) وفق الدكتور سليمان العيوني إلى اختياره عنوان هذا البحث؛ إذ ليس عمله هذا بمثابة ما يقدمه المحققون بين يدي العمل المحقق من تعريف يسير به وبنسخه وبطريقة المحقق التي اتبعها، ومن يقرأ البحث يتبين له بجلاء المعاناة التي عاناها العيوني في تتبع هذه الألفية والصبر الذي صبر نفسه معها، ثم صاغ الباحث عمله صياغة محكمة ملتزمة بأصول المنهج العلمي وقواعده، تناول في الفصل الأول جملة ما يتعلق بتأليف هذه الألفية، من حيث اسمها وعدد أبياتها ومكان تأليفها وزمنه وعلاقتها بالمنظومة المطولة التي سبقتها وهي الكافية الشافية، وعالج في الفصل الثاني طباعة الألفية وتحقيقها ومخطوطاتها، وأما الفصل الثالث فخصصه لإبرازها واختلاف نسخها. وتبين للشيخ العيوني أثناء عمله الجاد أن بعض من حققوا شروحَ الألفية تجرأ على تغيير بعض ألفاظها، ومنهم من أثبت ما هو بخلاف الشرح، وتعجل منهم من حكم بالتصحيف على ألفاظ وردت في روايات الألفية، وتابع بعضهم المطبوع من الألفية في ضبط نصها الذي في الشرح مع مخالفة المطبوع لجميع النسخ المخطوطة. ولعل الدكتور لم يطلع على تحقيق عبداللطيف بن محمد الخطيب لـ(متن ألفية ابن مالك) ط1، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع/ الكويت، 2006م؛ لأنه لم يشر إليه على الرغم من استقصائه الظاهر وحرصه البين على جلاء الحقيقة، والخطيب يشير إلى خلافات بين النسخ لم يشر إليها العيوني . ويتصف الشيخ العيوني بتواضع محمود إذ تراه يبدي أسفه عن عدم تحقيق الألفية على نسخ تامة العلو، مع أن هذا ليس بيده، وهو حال كثير من الكتب المحققة، ثم يدعو من يعرف نسخة تامة العلوّ أن يتكرم بإرشاده إليها. واستعان العيوني في عمله الجاد بطائفة كبيرة من المصادر والمراجع الأصيلة منها المخطوطات ومنها الرسائل العلمية ومنها المطبوعات.
للموضوع صلة