استوقفتني كثيرًا عبارة جداريّة التقطها أحد المارّة، وتناقلها الركبان، وطارت بها مواقع التواصل الاجتماعيّ، وقد كُتبت بخطٍّ رديء يوحي بمحدوديّة ثقافة كاتبها وعلمه، وربّما صغر سنّه؛ اقتصرت على أربع كلمات فقط، تقول: «أنا لا أصلحُ للحبّ». لا أعلم لِمَ شعرت أنّها قصّة مكتملة الأركان، وأنّ هناك حكاية عميقة تكتنز بها هذه الكلمات البسيطة التي يوحي مظهرها الخارجيّ الخادع بالخبَريّة، لكنّها بالتأكيد ليست كذلك! فالخبر ينقطع اتّصاله بناقله والمنقول إليه بمجرّد إذاعته، وليس هناك ما يدعو المتلقّي للتوقّف عنده، وإشغال العقل فيه، وهو بالتالي لا يعمِّر طويلًا، كأن يقال: «فلان لا يصلح للحبّ»، أو «أحدهم لا يصلح للحب»؛ فهي إن كُتبت على هذا النحو، خلاف سطحيّتها وخبريّتها الفجّة، ستفسد تفاعلاتها الداخليّة وبنيتها السرديّة، لأنّها لا تشير صراحة إلى صراعات معيّنة يعيشها كاتبها، كما تفتقر إلى تنامي الحدث، والتسارع الزمانيّ، والتغيّر المكانيّ، وإن في حدّهما الأدنى، وهي بالتالي لا تُظهر أيَّ حراك ذاتيّ يعتمل داخل النصّ، فيدعوك للتوقُّف ومحاولة الفهم، ما يعني صعوبة إسناد أيّ تأويلات إليها، إذ ليس هناك ما يؤكّد ذلك أو يشير إليه صراحة؛ فالكاتب قد يكون مجرّد ناقل، لا يرتبط بالمضمون على الإطلاق، ممّا يؤكّد أنّها بالفعل جملة خبريّة.
وحتّى لو افترضنا أنّ الكاتب يسرد الخبر على هذا النحو ليثير زوبعة من التساؤلات المضمَرة التي توحي بارتباط النص بطريقة أو بأخرى بالشخص المستهدَف، وسعيه لتشويه صورته، فهي ستكون علاقة خبريّة أيضًا، لا تشير إلى حكاية حقيقيَّة مستهدَفة، وإنّما مجرّد نميمة، وسوء سلوك، بهدف النيل من هذا الشخص.
بينما الحكاية التي يمكننا الانطلاق منها لبناء قصّة قصيرة أو قصيرة جدًّا، تستلزم العلاقة غير الموظّفة عمدًا، إن كان ذلك داخليًّا ضمن محتوى النصّ نفسه، أم خارجيًّا بين النصّ ومحيطه وبينه وبين كاتبه، وكذلك بين الكاتب نفسه ومحيطه الخارجي؛ أو على الأقل تكون هذه العلاقة مضمَرة، لا يمكن قياسها والمحاسبة عليها، وتتطلّب إيضاحات من السارد لفهمها والوقوف عليها؛ فالاستهداف الشخصيّ الواضح والصريح يُفسد القصّة ويقلّل من قيمتها. لذلك، كان في نسبة هذه العبارة التلقائيّة «أنا لا أصلحُ للحبّ» لكاتبها، ما أخرجها من الخبريّة وأدخلها بكلّ قوّة إلى جنس القصّة؛ فالعلاقة الخارجيّة هنا بين النصّ وسارده مباشِرة، ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها دون أن يكون ذلك متعمَّدًا، سوى أنّه إحساس طفا على السطح فجأة دون سابق إنذار. فالإقرار من الكاتب بأنّه لا يصلح للحبّ فيه إشارة لا لبس فيها إلى أنّ هناك أسبابًا متعدّدة وحكاياتٍ مؤلمةً عاشها أو يعيشها، جعلته يعتقد هذا الاعتقاد، بل ويؤمن به، ما دفعه للتصريح به وكتابته بالخطّ العريض على أحد الجدران. وأظنّه، لولا الحياء أو الخوف من المساءلة القانونيّة، لذيّل هذه القصّة المؤلمة باسمه وعنوانه، وربّما جلس قربها ليجيب كلّ من يسأله عن سرّ هذا الإحساس العميق الذي أوصله إلى الإيمان بهذه الحقيقة والتسليم بمقتضياتها.
طالما كان هناك علاقة خارجيّة منطقيّة ومبرّرة، وغير متكلّفة، ويمكن رؤيتها بوضوح بين النصّ وكاتبه والمجتمع المحيط بهما، وأمكن رؤية بؤرة تنامي تفاعلات متعدّدة الأقطاب داخل السرديّة، فنحن بلا أدنى جدال ولا نقاش نقف أمام نصٍّ قصصيّ إبداعيّ، يسرد لنا حكاية، وإن لم يذكرها صراحة، مكتفيًا بسيميائيّات دلاليّة يلتقطها كلّ حصيف.
كلّ ذلك يدعوني إلى توقُّع حكاية هذا الكاتب، ولا أظنّني إلّا قادرًا على سردها بكلّ تفصيلاتها، فهو يبدو شخصًا محبَطًا، تعرّض إلى سلسلة من الانتكاسات التي جعلت من حياته جملة من المآسي والندوب، وذلك نتيجة علاقاته الغراميّة المتعدّدة الفاشلة، ممّا ولّد لديه إحساسًا متجذِّرًا بأنّه غير صالح مطلقًا لإقامة علاقة عاطفيّة؛ فما حدث معه من نهايات غير جيّدة، وفشل متكرِّر، جعله يؤمن بهذه الحقيقة، ويسلِّم بها، ويستسلم لها، حتّى خلص في نهاية قصّته إلى أنّه لن يقيم أيّ علاقة عاطفيّة مجدّدًا، بعد وصوله إلى قناعة قويّة بأنّه سيفشل مجدّدًا لو قُدّر له المحاولة. لذلك قرّر التوقُّف، والإعلان أنّه غير صالح للارتباط بأيّ طرف آخر.
إنّها حالة إنسانيّة فريدة، تتعارض مع التركيب الشعوري الإنساني المتعارف عليه، الذي يجزم من خلال التجربة والبرهان أنّ الإنسان كائن اجتماعيّ، لا يمكنه العيش دون التواصل مع محيطه البشري؛ ليشكّل لنا بهذا التعارض دهشة من نوع مختلف، لا ترتبط بالنهاية فقط وإنّما بمجمل النصّ، أو لنقل إنّ النهاية المدهشة والمخاتلة تتوقّف على فهمنا لمغزى الحكاية نفسها، أي أنّ النصّ كاملًا شكّل دهشة النهاية، وهذه بحدّ ذاتها تشكّل إبداعًا حقيقيًّا وصل إليه الكاتب في نصّه المختزَل والمكثّف.
هذه التجلّيات والمفاهيم النصّيّة العميقة، لم ينقلها لنا الكاتب بشكل مباشر، وإلّا لكان نصُّه مغرقًا في الخبريّة والسطحيّة، ولما استحقّ الوقوف عنده والحديث عنه، وإنّما كان خياره أن يسردها على هيئة قصّة إبداعيّة، عندما قرّر أن يجمع بين سلاسة العبارة وبساطتها وقدرتها على الوصول إلى الجميع، وفهم مغزاها السطحي من أوّل وهلة، بعبارة تُعَدّ غاية في الاختزال والتكثيف، في وقت لم يُغفل عمقها الدلالي وسيميائيّتها الإبداعيّة، وراهن على أنّه سيمنحها القيمة الحقيقيّة التي تستحقّها، ويخرجها بالحجم الكبير الذي تستحقّه.
وهو يقرّر بدهاء سرديّ أن يترك لنا مساحة للتعاطي مع عبارته، والتفكير في مدلولاتها، ومحاولة الوقوف على تفاعلاتها الداخليّة والخارجيّة، بما يزيل غموضها الإيجابي، ويحقّق هدفها الإثرائي، وبالتالي ذيوعها وانتشارها كأنموذج للقصص الإبداعيّة القصيرة جدًّا التي لا يُعرف صاحبها، وربّما جرت على لسانه دون أن يدرك حتّى هو قيمتها الحقيقيّة. لنصل في نهايتها - رغم هذه الضبابيّة المحيطة بالكاتب والظروف التي ولّدت لديه هذا الإحساس القاتل - إلى أنّ النصّ، بمعزل عن كاتبه أو بعد قتلنا للمؤلّف - كما يطلب منّا «رولان بارت»- يدعونا إلى استنباط الفكرة الإبداعيّة التي انطلقت منها شرارة هذه السرديّة، والتي تقوم على مبدأ نفسيّ عظيم قال به عدد كبير من علماء النفس، يقضي بأنّ تراكم التجارب الفاشلة غير المبرَّرة والمتروكة دون تفكيك أو فهم لأبعادها الحقيقيّة، وعدم علاجها في وقتها وانتزاع علّتها من جذورها، يعزّز من نظرتنا السلبيّة لأنفسنا، ويبطئ حركتنا، وقد يوقفنا عن العمل؛ وعلينا، إن أردنا تجنُّب هذه النهايات التعيسة والنجاة منها، الوقوف عند كل تجربة، ومحاولة فهمها، وتحديد أسباب فشلها، وتلافي كلّ ما من شأنه إيصالنا إلى هذه النهايات السيّئة مستقبلًا؛ وإلّا فإنّنا سنؤمن بفشلنا ونتعايش معه، وبالتالي سنصل إلى النهاية المأساويّة نفسها التي عاشها هذا الكاتب المجهول، عندما وجد أنّ الشيء الوحيد الذي سيخفّف من حمله الثقيل هو إعلان فشله على الملأ، ونسبة هذا الفشل إلى نفسه صراحة، لعلّه بذلك يستطيع قبول الحالة النفسيّة التي يعيشها، ويتأقلم معها.
بقي أن نقول، إنّ قراءتنا المستفيضة لهذا النصّ الإبداعيّ، إنّما تعزّز إيماننا بأنّ الكاتب الحقيقيّ لا يموت أبدًا، فهو جزء لا يتجزّأ من نصّه الإبداعي، يمكننا قراءته هو شخصيًّا من خلال مداد قلمه، حتّى لو تجاهلناه أثناء انشغالنا بنصّه، كإجراءٍ مؤقّت تستلزمه القراءة العادلة التي تطالبنا بها مقولة «رولان بارت» في عمقها الإدراكي؛ فإنّنا سنعود إليه يقينًا في نهاية الأمر، عند وصولنا إلى حقيقة أنّ المشاعر الصادقة والعفويّة تشكّلان رافدًا مهمًّا، قد يخلق لنا كاتبًا مبدعًا، وإن لم يدرك هو على الإطلاق قيمة كتاباته.
** **
- حامد أحمد الشريف