عبدالوهاب الفايز
السلوك الذي تتبعه الآن الحكومات الغربية نجد فيه العلامة المذمومة: (الفُجر في الخصومة!).
إنهم يذهبون بعيدًا في المواقف والإجراءات لأجل إطالة أمد الحرب، ولا يهتمون لمخاطرها على الشعوب وعلى السلام العالمي، والمفارقة العجيبة أن الدول الأعضاء في مجلس الأمن هي من يوقد نار الحروب ويدعم استمرارها! وهذا السلوك الذي أحدثته صدمة الحرب في أوكرانيا، يتيح مراقبة المشهد بهدوء وتأمل، ومسار الأحداث تحيي التاريخ بكل عبره ودروسه وماسية.
سلوك بعض الحكومات الغربية كأنه سلوك الجماعات المنظمة التي تسعى للسرقة في حالة الفوضى والاضطراب، واستثمار الفوضى يذكرنا بموقف الجيش الأمريكى في العراق عندما تستر وسهل سرقة متاحف العراق مما خف حمله وغلا ثمنه. مؤسف أن نرى تاريخ الاستعمار يُعاد إنتاجه، فالشعوب الأوربية تعود إلى غريزتها المتوحشة، وتساهم في دعم الموقف الأمريكي لإطالة الحرب، ففي أوكرانيا، تقاتل إدارة بايدن روسيا (حتى آخر أوكراني)، كما يقول الدبلوماسي الأمريكي الكبير المتقاعد تشاس فريمان.
حالة الصراع الجارية هذه تطرح أسئلة وجودية وتعيد قراءة التاريخ من جديد، فالأيام حبلى بكل عجيبة!
أمريكا وحلفاؤها، بالذات الأوربيون، دخلوا في حالة مواجهة مع روسيا، تشمل كل شيء، فالحصار ليس مقصورًا على الأرصدة في البنوك، بل يشمل التاريخ والثقافة والفنون والقصور والأندية الرياضية واليخوت. هذه المواجهة الشاملة تفتح الملفات وتثير التساؤلات العميقة، وسوف تطرح تحديات حقيقة لمفهوم الديمقراطية الليبرالية والعدالة وحماية الحريات الفردية في الدول الغربية. وأول الصدمات حدثت للمبهورين بحضارة الغرب عندما شاهدوا ازدواجية المعايير مع المهاجرين، وشاهدوا ما اتخذته مؤسسات أكاديمية وثقافية غربية لإلغاء تدريس الفنون والثقافة والآداب الروسية. والصدمة الثانية القوية أحدثها الموقف من الثروات والاستثمارات الروسية، حيث تمت مصادرة كل ممتلكات الروس، وتقدّر خسارة روسيا من ناتجها القومي (4.32 ترليونات دولار) بحدود 20 بالمئة حتى الآن.
مصادرة الأموال والأصول تمت بذريعة مطاردة (النخبة الالوغارشيه) الروسية المتحالفة مع بوتن. هذه النخبة أول مصادرة لأموالها تمت في العواصم الغربية التي كانت الملاذات الآمنة للثروات، بالذات لندن. هذه المصادرة السريعة، التي قد يذهب ضحيتها أشخاص أبرياء، أول من انتقدها صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية، ففي (3 مارس 2022) نشرت موضوعاً ناقش (كيف أصبحت لندن عاصمة الأموال القذرة في العالم). وذكَّرت أن رجال الأعمال والشركات الروسية استثمروا في لندن منذ عقدين، بتشجيع من السياسيين البريطانيين من جميع الأطياف، وهذا التساهل والترحيب الحكومي جعل (مغسلة لندن) تنظف الأموال القذرة من روسيا ومن جميع أنحاء العالم. والصحيفة تتساءل: لماذا الغزو الروسي لأوكرانيا الآن يستدعي تسليط الضوء على هذا الأمر الذي لاحظه العالم منذ بداية عمليات المصادرة.
تذكر الصحيفة أن الاقتصادي الفرنسي غابرييل زوكمان قدر في عام 2014 أن 52 في المائة من الثروة الروسية كانت مودعة في الخارج. وتنقل عن تقرير للبرلمان البريطاني يعترف فيه بأن النفوذ الروسي في المملكة المتحدة، بحلول عام 2020 كان بمثابة الوضع الطبيعي الجديد، والكثير من الروس الذين لهم صلات وثيقة قوية بالرئيس بوتين كانوا (مندمجين بشكل جيد في المشهد التجاري والاجتماعي في المملكة المتحدة).
إذا الدول الغربية بالذات بريطانيا، كما تدعي، تعاقب روسيا والنخبة الساسية والاستثمارية على الفساد بهذا العقاب القاسي، السؤال: لماذا يتحركون الآن مستندين إلى المبادئ والأخلاقيات والقوانين بعد ثلاثين عامًا من انطلاقة مشاريع التخصيص للاقتصاد الروسي التي جنى أرباحها الكبيرة الالوغارشيه الأمريكية والروسية؟
في لندن تم وضع الأنظمة المتساهلة لجلب الأموال الرخيصة للبنوك، والمربحة لشركات المحاماة وللوسطاء العقاريين وللموظفين الحكوميين وللأعضاء في البرلمان. في وسط لندن بيعت عقارات للروس بمليارات الدولارات في فترة محدودة. أيضاً وخلال ثمان سنوات حصل الروس والصينيون على 60 بالمئة من 3000 تأشيرة للإقامة الذهبية. والأنظمة المتساهلة طبقاً للفاينانشيال تايمز أدت إلى تسجيل 84 ألف منزل تحت أسماء وعناوين ملاك شبه غامضة. والمثير للاهتمام جزم الصحيفة أن الكليبتوقراطية (حكم اللصوص) أدت لوجود شبكة ضخمة للتكسب من الفساد. في بريطانيا هناك 86 بنكاً، و81 شركة قانونية، و177 مؤسسة أكاديمية وبحثية متورّطة في غسيل الأموال. هذه الفضيحة هي التي دفعت البرلمان لتسريع قانون الجرائم الاقتصادية.
هذا الاتجاه من النخبة الفكرية والإعلامية الغربية للاعتراف بدورهم في مشاريع التخريب السياسي والاقتصادي للشعوب والدول أمر إيجابي للحضارة الغربية لكي تحافظ على إنجازاتها الإيجابية للبشرية. الحرب في أوكرانيا والإصرار على تدمير روسيا لا يعكس حكمة سياسية أو قيمة حضارية للغرب، بل مؤشر تراجع في القيم والأخلاقيات. مصادرة الأموال الشعبية والسيادية الروسية المسكوت عنها والتي غذت الخزينة الأوربية لأكثر من ثلاثين عامًا، سوف تطرح بعد الحرب تحديات قانونية، وهنا يكون الاختبار الحقيقي لعدالة واستقلالية القضاء الغربي. إذا استمر تسييس الأمور واتجهت المحاكم إلى تأييد ما فعلته الحكومات، هنا مؤشر الانقلاب على القيم. وإذا تم الالتزام بضمان عدالة القضاء فقد يترتب على مصادرة الأموال والأملاك تعويضات كبيرة. مثلاً، نشرت مجلة اتلانتك موضوعاً مطولاً حول يخوت الأثرياء الروس التي تمت مصادرتها، وبينت أن هذه تتم غالباً بصورة غير قانونية، وسوف يترتب عليها تبعات قانونية واسعة.
الغرب يواجه لحظة امتحان تضعه عارياً أمام الشعوب التي ما زالت تعتقد بمثاليتة وعدالته، وتجذبها شعاراته حول حقوق الإنسان. أيضاً ثمة درس للأثرياء وللمستثمرين الذين ظلوا يعتقدون أن البنوك الغربية هي الملاذات الآمنة للاستثمارات والمدخرات. الشعوب ترى صورة حيّة لأحداث التاريخ التي كانت تسمع عنها حول الحقبة الاستعمارية، حيث سرق المستعمرون الأوربيون ثروات الشعوب بدءًا من تطوير تجارة العبيد، ومروراً بسرقة الثروات الطبيعية لإفريقيا وآسيا، هذه الشعوب ترى التاريخ يعود حياً!