م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - ما أجمل صوت الصمت! استمع إليه متدفقاً سلساً بلا نشاز، ليس فيه نغمة عالية أو حادة.. هو فقط ينساب بلا ضجيج ولا فوضى إلا إذا عكر صفوه تدخل خارجي ينقض هدوءه ويثير سكونه.
2 - الصمت كالليل يسدل رداءه على كل شيء.. بل هو الليل في شموله وسكونه وظلامه.. لا تراه لكنك تسمعه يملأ الفضاء والنفس والوجود.. فهو قريب منك ويمتد إلى أقصى ما يمكنك رؤيته أو استيعابه.
3 - الصمت مخيف ومريح في ذات الوقت، وهذا يعتمد عليك وما تحس به.. فمشاعر الخوف أو الراحة نابعة من ذاتك وليست من الصمت.
4 - الصمت يمكن أن يُشعرك بالكآبة إذا دخلت بيتك وكان يعج بصياح أطفالك وعائلتك ثم غادروه.. ويُشعرك بالحزن حينما تدخل مكتبك وكان يعج بالموظفين والزملاء ثم تركوه.. ويُشعرك بالسعادة إذا دخلت غرفتك لتنام بعد يوم مليء بالضجيج.
5 - الصمت هو ذلك الكائن المرن الذي يمكننا أن نُشَكّله ونُصَنّفه ونحدد نوعه.. فهو أحد أهم مكونات الحياة.. وأهميته نابعة من أنه يمكن أن ينقل أحاسيسنا من النقيض إلى النقيض.. ليس هو الذي يفعل ذلك بل نحن، فهو مجرد وسيلة.
6 - الصمت بقدر ما هو حالة فهو وسيلة أيضاً.. وسيلة للمغرور والمتكبر ليبدي غروره.. وسيلة للخجول والخائف ليظهر خجله أو خوفه.. وسيلة للمحبط واليائس ليعبر عن يأسه.. وسيلة للذي نفد صبره ليعلن عن تخليه.
7 - الصمت حالة كونية فريدة، فكل شيء في الحياة يكون بفعل إلا الصمت فهو يحدث من السكون واللا فعل.. وهو حالة تعبيرية بليغة لا تترك للكلام مجالاً لمنافستها.
8 - كل شيء في الدنيا يمكن أن يتحول إلى تلوث إلا الصمت.. فهو لا شيء وهو في ذات الوقت كل شيء.. هو فاعل ومفعول به، وحالة وغاية ووسيلة وهدف.. هو فعل ولا فعل، وأينما تضعه سوف تجد له مكاناً ونفعاً ورسالة ومعنى.. فالإنسان يمكن أن يصمت إذا فرح أو حزن أو غضب أو اندهش أو احتار.. فالصمت وسيله تعبير عن كل حالة إنسانية محتملة.
9 - الصمت حالة تصاحبها حالات أخرى.. فهو يصاحب الحزين وهو يبكي، والسعيد وهو يبتسم، والمندهش وهو فاغر فاه، والغاضب والشرر يتطاير من عينيه، والبحر رغم تلاطم أمواجه، والرياح رغم صفير هبوبها، والأماكن رغم صرير أبوابها.
10 - الصمت يمكن أن يكون تعبيراً عن استسلام أو هروب أو احتجاج أو رفض أو مقاومة.. ويمكن أن يعبر عن الشعور والأحاسيس.. ويمكن أن يعد قراراً ورأياً يتخذه الصامت. الصمت يمكن أن يعبر عن الكرامة أو المقاومة أو التآمر أو المصلحة.
11 - الصمت يمكن أن يكون ممدوحاً إذا كان الصامت تحت وطأة التعذيب لكشف أمر لعدو.. ويكون اشتراكاً في جريمة إذا كان لستر جناية.. ويكون مذموماً إذا كان مقابل رشوة للصمت عن شيء مخل بالنظام مثلاً.
12 - الصمت يمكن أن يكون تعبيراً عن الخوف أو الحزن أو الترقب أو المرض أو الموت.. الصمت في السجون، والصمت في المستشفيات، والصمت في المقابر، الصمت عند حدوث فاجعة، والصمت عند انتظار قرار أو حدث مخيف.. وهناك الصمت الذي يدل على الحكمة.
13 - لكن ما هو اللون الذي مُنح للصمت.. وهل سبق أن مُنح الصمت لوناً خاصاً به؟ هل يمكن أن نمنحه لوناً محايداً كالرمادي.. هل سنمنحه لون الفرح الأبيض أو الحزن الأسود أو الخوف الأصفر.. أم هو متلون حسب الظرف والحالة والشخص؟ كيف يمكن أن نفلسف منحنا اللون المناسب للصمت؟ هل نعتبر الصمت صندوق الأسرار وبالتالي نمنحه اللون الأسود، أو هو دليل على الاختناق فنمنحه اللون الأزرق، أو هو صمت المحب فنمنحه اللون الوردي، أم هو صمت الوعيد فنمنحه اللون الأحمر؟
14 - للصمت حضور الوقار والمهابة، وله لغة تخترق الروح حتى تصل العقل.. في الغياب يحضر الصمت، وفي الوحدة يكون الصمت هو الرفيق، وحينما تسترجع الذكريات يحضر الصمت على شكل صورة فوتوغرافية.. وحينما تكون في حضرة العقول وسط مكتبة عامة سيكون الصمت هو المهيمن.
15 - الصمت هو وسيلة الاتصال التي تنشأ بينك وبين أشيائك الخاصة؛ سيارتك، سريرك، بيتك، مكتبك.. الصمت يمكن أن يكون صرخة مكتومة، ويمكن أن يكون حديث الروح للروح لا يسمعه إلا المتخاطبون.. تقول العرب: إذا كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب.