أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اعلموا أيها الأحباب أن نزول القرآن منجَّماً جاء بجزءٍ من آية كقوله تعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} (سورة النساء/ 95)، وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} (سورة التوبة/ 28)، وتارة بآية تكون بياناً لما قبلها في ترتيب المصحف، وهي متأخرة عنها في تاريخ النزول كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (سورة الأنبياء/ 101)، وبآيات متوالية كالآيات عن قصة الإفك.. وتنزل آيات أخر وسور أخر فيما بين آية تقدم نزولها وآية تأخر نزولها، وقد ذكر السيوطي أن ابن اشتة روى في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب: عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لِمَ قُدِّمَت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة؛ وإنما أنزلتا بالمدينة.. فقال: قُدِّمتا وأُلِّف القرآن على علمٍ ممن ألفه به، ومن، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك؛ فهذا مما يُنْتَهى إليه ولايُسال عنه.. قلتُ: هناك سمات عامة يعرف بها على وجه الإجمال؛ فآيات الأحكام ولاسيما أحكام الجهاد وتفصيل أحكام الحج والصيام ومخاطبة أهل الكتاب واليهود؛ فكل هذا مجمله نزل بالمدينة المنورة.. ومُحاجَّة كفار العرب، والأمر بالموادعة والصبر، والبراهين على الله وعلى علم الغيب وإثبات الرسالة والبعث مجمله نزل بمكة المكرمة.
قال أبو عبدالرحمن: ومن فضائل التفسير أن يبدأ المفسر بحصر مواضيع الأحكام والأخبار في السورة الواحدة، ويُرتِّبها؛ فتَتَجلَّى له المناسبات بوضوح.. وما أحلى كلمة الزركشي عن كون المصحف مرتباً في الكتاب المقروء، وأن نزوله مُنجَّماً محفوظ في الصدور إلى أن دُوِّن مع تفريقه بين تاريخ النزول وسببه.. قال رحمه الله تعالى: (إن الزمان إنما يُشترط في سبب النزول ولا يُشترطُ في المناسبة؛ لأن المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها، والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي علم من الله تعالى أنها مواضعها).
ومن الآيات التي تجد فيها التفريق بين أسباب النزول، وبين اختلاف الزمان، وبين وجود المناسبة هذا المثال الذي ذكره الزركشي.. قال رحمه الله تعالى عن قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} (سورة النساء/ 51) قد نزل في كعب بن الأشرف.. كان قد قدم إلى مكة، وشاهد قتلى بدر، وحرَّضَ الكُفَّار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: (من أهدى سبيلاً: المؤمنون أم هم؟)؛ فقال : أنتم.. قالها كذباً منه وضلالة؛ فهذه الآية نزلت في حقه وحق من شاركه في تلك المقالة، وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد أُخذت عليهم المواثيق ألا يكتموا ذلك، وأن ينصروه، وكان ذلك أمانة لازمة فلم يؤدوها وخانوا فيها؛ فذلك مناسبة نزول قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (سورة النساء/ 58) التي نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري حاجب الكعبة لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ثم ردَّه عليه.. قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى: (وجه النظم أنه خبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: أن المشركين أهدى سبيلاً؛ فكان ذلك خيانة منهم؛ فانْجَرَّ الكلام إلى ذكر جميع الأمانة). وقد نعى الفخر الرازي على أكثر المفسرين قلة عنايتهم بالمناسبة فقال: (إني رأيت جمهور المفسرين مُعْرِضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار صورته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
.. قلت : كلام الرازي حق في ضرورة تَحرِّي المناسبة؛ وإنما يُعاب بذكره مناسبات لا وَجْهَ لها، ولا برهان عليها.
قال أبو عبدالرحمن: وبَعَد هذه الجولة مع أقوال العلماء عن المناسبات والتنجيم والترتيب أقول: قبل التعجُّل بإنكار المناسبات بين الآيات تجب ملاحظةُ أن بعض السور تأتي في موضوع خاص كسورة الإخلاص وسورتي المعوذتين؛ فاتَّحاد الموضوع مُغنٍ عن طلب المناسبة في الأغلب، وقد يقتضي الملحظ البلاغي تحرير المناسبة كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (سورة الإخلاص/ 3) مع أن الذي ولد يوجد بعد أن يولد؛ فقدم الله المؤخر لأن الكفار لم يزعموا أن الله جل جلاله مولود، وإنما زعموا أنه يلد تقدس ربي وجل؛ فجعلوا الملائكة بنات الله، وقالوا عزير ابن الله.. وبعض السور تشتمل على أمورٍ كثيرة كسورة البقرة جاء فيها ذكر المنافقين واليهود وخلق آدم عليه السلام وأحكام الحج والصيام.. إلى غير ذلك؛ فالسياق عن موضوع واحد لا يحتاج إلى ذكر مناسبة إلا كما أسلفتُ عن سورة الإخلاص، والانتقال إلى موضوع آخر قد يكون استئنافاً، وقد يكون لمناسبة بين الموضوعين، وقد يكون لعارض الغرض منه التذكير بحالة مماثلة.. وإحصاء ذلك يكون لمن يتعنى لجمع المناسبات بين الآيات؛ فيذكر أنواعها.. وأما المناسبات بين الآيات؛ فيذكر أنواعَها.. وأما المناسبات بين السور فموجودة بلا ريب؛ لأن ترتيبها لم يكن عبثاً، ولكن قد تكون المناسبة غيرَ معنوية؛ بل لتشابه بين الموضوعات، أو لتقارب في طول السور وقصرها وتوسطها، أو للتذكير بما سبق ذكرُ قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأتي مختصرة ومفصلة وبزيادة فائدة؛ ليكون تالي كتاب الله في ترابط مع أخبار القرآن الكريم وأحكامه وفي تذكُّرٍ دائم.. وهذه الأنواع أيضاً تتحدَّد باستقراء الناسبات بين السور على الوجه اليقيني أو الأرجح.. وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
كتبه لكم:
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)
- عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -