د.فوزية أبو خالد
«ببالغ الحزن والأسى أنعي إليكم أخي الشاعر والكاتب الكبير والناشط الوطني علي الدميني، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى صباح يوم الاثنين الماضي في مدينة الدمام. لروحه المغفرة والرحمة ولا حول ولا قوة إلا بالله، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.»
صحوت صباح يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر رمضان 25-4-2022م على إيقاع الحزن الجارف لكلمات هذه الرسالة التي كتبها الشاعر محمد الدميني بدم القلب ومن لحظتها لم أنم.
كنتُ أعيش حالة الصديق والنسيب وتوأم الضمير شاعر الوطن علي الدميني يوماً بيوم من خلال مد وجزر الأمل في عيون وصوت صديقتي وشريكة عمر علي (فوزية العيوني)، كما كنتُ أعيش حالة علي لحظة بلحظة من خلال رد علي على رسائلي وكلماته التي لم تفقد بريق الأمل لآخر لحظة، وكنت أعلم حالة علي بالمعنى الطبي الأدق من الابن العقلاني الرشيد عادل بن علي الدميني ومن خلال ابني غسان بن حسين العقبي ومن ابنتي لينا بنت محمد الدميني إلا أنني لم أحسب حساب رسالة محمد بنبأ الفقد الفادح لحياة علي الدميني رغم ما كنتُ أحس من تراسلي مع محمد الدميني منذ منتصف رمضان من لوعة غامضة ورائحة جارحة.
وليس لي وقد حتم الأجل الذي كنا نؤجله بالدعاء إلا أن أقول لكل أجل كتاب، وقد كان كتاب الشاعر علي الدميني محفوفاً بعدة آجال وتحدياتها وبالكثير من الآلام بأثمانها الباهظة المنهوبة من جسده النحيل وروحه المرهفة إلى أن اختار له الباري عزَّ وجلَّ هذه النهاية العزيزة في صباح يوم اثنين رمضاني فضيل وهو محاط بأنفاس زوجته الحبيبة المتفانية في عشقه، بجانب أبنائه وأخيه، محصناً بابتهلات الأم التي ربته، محفوفاً بلهف محبيه ومحبي شعره ومبادئه عبر طول الوطن الذي يعشق وعرضه من جنوبه لشماله ومن غربه لشرقه.. ورغم الفاجعة التي اعتصرت القلوب من أعالي جبال السروات لأطلس المغرب ومن عنب الباحة لنخيل الأحساء ومن نهر فرات العراق ودجلة لأرز لبنان على فقد علي الدميني، فإننا ندرك على ارتياع أن علي الدميني السباق كعادته قد تقدمنا قليلاً في موكبنا جميعاً للمغادرة يوماً ما، كما لا نقول على يقين إلا ما يرضي الله {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
* * * * * *
جلَّلك الرحمن يا علي بأجنحة رحمته شاعرًا ومناضلاً وإنسانًا فريدًا في إخلاصه وشجاعته وشفافيته واستنارته.
مصابي الشخصي والعام في رحيل الشاعر علي الدميني أفدح من فادح كمصاب بلاد فداها بروحه وسقاها يومياً من ضوء عيونه حبراً حراً، أما جرحي بفقد هذا الإنسان الذي لم يكتب قصيدة إلا ليتغنى بالحياة وبسموق السنابل وبعبير القهوة وبالحب وبالإنسانية والكرامة ولم يكتب كلمة إلا لينحاز للفقراء والمحرومين والأحرار وللحق والعدل والجمال فلا أغوار له.
الشاعر عليّ الدميني الشهم الشريف الحر الخل الوفي أخي وصديقي ونصيري وخصيمي وعضيدي ونبراسي عرفته وإن على بعد وطناً ومكارم وعرفته في القرب والبعد كما عرفه العالم العربي والعالم شاعرًا مرهفاً وإنساناً مكافحاً، وستبقى خسارتنا له لا تعوَّض إلا بما ترك من كتب وبالقبض على جمرة وجنة القيم الإنسانية العظيمة من الحرية إلى العدل وما بينهما من مبادئ التي عاش لها وبها عيشة الأحرار مدافعاً دفاع الفرسان في الذود عن حرية الفكر وشرف الكلمة بنضال سلمي طويل النفس واهباً الحرية والقصيدة عنفوان العمر ودفع في سبيل اختياراته الصعبة أثماناً غالية وقاسية بسخاء طائي وبمراس شرس وبشاعرية طائشة عميقة.
رحم الله الشاعر علي الدميني الذي لم تجف دمعتي عليه لأسبوعين مضيا، وحق لها ألا تجف وقد ترك في روحي بصمات من الحنان الأبوي على تجايلنا.
* * * * * *
أما أنت أيتها (الفوز) المُلهمة فكم من الأنهار يمكن أن نكتب بها الألم المشترك حتى في هذه اللحظة الحارقة وعلي يغمض عينيه ويمضي سارحاً خلف غزلان الشعر ووعول الكتابة.
تخنقني العبرات وتخونني اللغة فلا كلمات تواسي توأم روحي فوزية العيوني رفيقة درب علي ورمزه الخالد، مَن وقفت معه وأمامه وخلفه في السراء والضراء بالمعنى الدقيق للكلمة.
* * * * * *
عزائي لوالدة الجميع أم محمد ولأخته نهاد وللشاعر رفيق الإلهام أيضاً محمد الدميني وأسرته وأبناء القلب نجلاء وعادل وخالد وسوسن أبناء علي الدميني وأبنائي ومواساتي الحارة لكل آل الدميني ولمحضرة والباحة وللوطن الغالي ولأحرار العالم.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
** علي الدميني يا عتمة العمر وبصيرته كم كنتُ أتوق أن تودعني وكم يكوي الروح أن أودعك إلا أنني ما حييتُ لن أودعك.
** {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
** إلى لقاء الأجيال عليّ الدميني مع مسيرتك النضالية السلمية ومع شعرك وفكرك ومع آفاقك الثقافية الشاسعة ما بقي ضمير حي وفكر حر.
* * * * *
** عندما كتب علي الدميني عن تجربتي الشعرية كتابه النقدي «شجر الأغاني» 2016م كتب لي إهداءً ضاحكاً: هذا الكتاب سهرتُ عليه خصيصاً لوجه الشعر.. تبرئة للذمة ولئلا تقولي مرة أخرى « جعل الله يومي قبل يومك لتكتب عني كما كتبت عن عبدالعزيز المشري» قرأتُ كلمته وبادلته الضحكة إلا أنني لم أحدس حينها ولا في أغمق أحلامي أن عبارته تلك المحفورة في وجداني الآن لم تكن إلا إيماءة قدرية مبكرة.
سامحك الله يا علي كنت ذا نبواءات شعرية ساحرة بحرف السين والألف وبدونهما.
* * * * *
** لا يعلم إلا الله أن القروح التي تفتحت في روحي برحيل عبدالعزيز المشري -رحمه الله - قبل عقدين وخلتها اندملت تفجّرت دفعة واحدة الآن وقرحت جفوني من جديد برحيل علي.
** فيا له في على الصحبي من حزني ومن وصبي.
** برحيل عبدالعزيز المشري وبرحيل عليّ الدميني رفيقي درب الحرية الذي افتتحاه وكوكبة مجايلة باكراً ولم يكن معبّداً إلا بالشوق والشوك تختتم مرحلة ثقافية بارزة ومؤسسة لثقافة « النص الجديد والحوار والإبداع « في تاريخ الوطن كتبت بحبر الجروح وبطحين وملح الحلم.
* * * * *
وأخيرًا في اللحظة المارقة بين عالمين وليس أخيرًا.
مهجة الحياة بيرق الشعر وبروق الفكر عليّ الدميني هذه رسالتي لك في هذه اللحظة المارقة بين عالمين تأتيك مسروقة من شاشتي ومن شراييني وأعدك أنها لن تكون رسالتي الأخيرة:..
** نم يا علي الآن بسلام في رحاب الرحمن الأجمل..نم قرير العين عزيز النفس مبتسم الثغر.. نم نزيه الضمير واسع الصدر سخي اليد عفيف الكلمة كما كنتَ دائماً وأبدًا وكما علمتنا بالقول والفعل وكما ستبقى في القصائد والأعياد والأطفال ما بقيت على الأرض حياة.
** موعدنا يوم آتي وليس مواعيد الغد ببعيد.
** أستودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه الشاعر علي الدميني.