د. جاسر الحربش
من مهام الإعلام الناجح الرئيسية إشهار الجيد من الأشخاص والأعمال والأفكار وكشف السيء، بالإضافة ولكن ليس أولوية محاولة اغتصاب الضحك من أفواه المشاهدين وتسلية الطفشان. لدينا فيما نملكه من البرامج الفضائية المحلية فائض طوفاني من برامج التسلية، والقليل منها الذي يدمج العقل والروح في تسلية ترفيهية تستحق التسمية والمشاهدة. مقابل هذا الفائض التسطيحي ليس لدينا من النوع الجيد العميق ما يكفي الحاجة وربما لا يزيد عن أصابع اليد.
إتاحة تسعين دقيقة في برنامج رمضاني ناجح وكثيف المشاهدة لشخصية نرجسية تغلف العلم البرهاني بالتوهيمات الصوتية وبرمجة الذات المتخيلة أعده شخصياً مساهمة متميزة وناجحة لكشف المستور من محاولات الاحتيال الجديدة لتغليف العلم البرهاني بالأوهام المتخيلة. إيجابيات فضح مثل هذه المحاولات التربحية لا تقل أهمية عن كشف المتاجرة عند الدعي المحتال المتكسّب بتلغيم المقدس الديني بالخرافة. كان لدينا قبل سنوات قليلة من هؤلاء الأدعياء الملوثين للدين النقي بالخرافات أعداد أكبر من الهموم على قلوب العاطلين عن العمل، وقد أثروا وترفهوا من تجارتهم الفاسدة ولكن لم يكن لدينا الصلاحيات الإعلامية لكشفهم وتحذير البسطاء من شرورهم.
أعتقد أن البرامج الفضائية في عصرنا الحالي أهم الوسائل لتأسيس وصناعة ما يُسمى «الذوق الاجتماعي العام» في منظومة العقد التعايشي لتصنيف ما هو صالح أو فاسد، من المفردات اللغوية وطريقة التصرّف حسب ظروف الزمان والمكان واختيار أنواع الملابس في مناسباتها المختلفة، وفي تراتبية الأعمار والمقامات وغير ذلك من الأقوال والأفعال. من هذا التأسيس للذوق الاجتماعي العام يشتق الناس الاستذواق لاختيار الصداقات والجوار والزواج والشراكة التجارية وصحبة الأسفار وممارسة الهوايات والمواهب وكل شؤون التعايش الاجتماعي.
مجتمعنا السعودي القديم (قبل 2015م) قدَّم حالة نموذجية لركود الذوق الاجتماعي العام بمواصفات ضامرة باهتة تلوث فيها التشريع الديني بالخرافة والتكسّب الفئوي بمظاهر التقوى الكاذبة. كذلك المجتمع السعودي الجديد لما بعد 2015م يقدم حالة نموذجية لما يحصل لمواصفات الذوق الاجتماعي العام عند المفاجأة بزوال أسوار العزلة والتسلّط الخرافي على العقول، فيختلط دون إعداد سابق العقلاني بالعشوائي وحسن النيَّة بالتصيّد في مياه الحريات الجديدة التي أصبحت متاحة في حدود الالتزام بشروط لا ضرر ولا ضرار بعد أن كانت من المحرَّمات باعتبارها من البدع الكفرية.
وقد كشف عنه غطاء المتاجرة بتغليف المقدس الديني بالخرافة وجد المواطن السعودي الجديد نفسه أمام حرية الاختيار من داخل خلطة برامجيات فضائية يتجاور فيها الكثير من التسطيح والإسفاف والاحتيال بادّعاء البراهين العلمية في أفكار خنفشارية، مع برامج عميقة الفكر والإعداد والأهداف الوطنية الإيجابية.
إلى أن يتشكّل الذوق الاجتماعي العام ويستقر ستحتاج المرحلة الانتقالية بعض الوقت، ولكن في النهاية سوف يتبلور ويبقى الصالح المفيد في الوسط ويختفي التافه السلبي في الهوامش.