د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الفلسفة ليس لها معنى محدد، لكنها تتعلق بحب الحكمة، وقد يكون أنسب وصف لها هو : التبصر، أو التفكر، أو التأمل، وهذا يعطي التوسع في البحث عن الحقيقة، والإبحار في ذلك إبحارًا قد يصل إلى نتيجة، ولهذا فإننا نجد أن الفلاسفة الأقدمين كان جلهم عالماً في الفلك، أو الطب، أو الرياضيات، وهذا التفكير العميق عندما يؤدي إلى نتيجة فيمكن توظيفها في الحياة العملية فيكون ذلك فتحًا عظيمًا على البشرية جمعاء، والإنسان منذ أن خلق وهو يبحث عن الحقيقة، ويبحث عن سر الوجود، وعن تلك القوة السماوية والأرضية التي صنعت ذلك كله.
ما تركه لنا الآباء من تاريخ تم تسجيله على الصخور، وعلى أوراق البردي ، وغيرها، مما يمكن الكتابة عليه، وهذا ينبئ بأن الإنسان يبحث عن الحقيقة، ومنذ عهد السومريين، والفراعنة، والبابليين والآشوريين، والفينيقيين، وغيرهم، والإنسان يرفع رأسه للسماء ثم ينزله إلى الأرض بحثًا عن خالق لهذا الكون، ومدبرًا، لقد رأى الشمس شيئًا عظيمًا، فرآها مدبرًا للكون، وصانعًا له، وكلنا نعرف عن قصة أبينا إبراهيم عليه السلام، وأيضًا ما كان يفعله الفراعنة بالنسبة لوضع قبورهم في الجهة الغربية لأنها تعني غروب الشمس، وهم المتفائلون دائمًا بشروق الشمس، ويتفكر الإنسان كثيرًا باحثًا عن سر الوجود، وواجد الموجود، وينظر الى رموز معينة بما فيها البشرية، للوصول إلى ذلك، حتى أرسل الله الأنبياء والرسل لهداية البشر منذ زمن خلق الإنسان، لكنه عندما يسير على نهج فترة من الزمن يعود إلى ما كان عليه بحثًا عن الحقيقة، على الرغم من أنها مسطرة في الكتب المنزلة، وأيضًا في الأقوال المتوارثة عن الأنبياء، لكنه الإنسان هكذا هو قد يخرج عبر الزمن معين عن الجادة السوية.
تختلف البيئة طبقًا للظروف الاجتماعية والبيئية، فالعرب في بيئتهم الصحراوية يستقون الحكمة من مجتمعهم، وصحرائهم، وحروبهم فيما بينهم، وكذلك فيما يرونه أمامهم في هذه الصحراء القاحلة الواسعة التي تجعل النظر يمتد طويلاً ليتفكر في ماهية الإنسان الاجتماعية، ولهذا فإن حكمة العرب لم تخرج من النطاق الاجتماعي إلى التطبيق العملي، لأنها حكمة اجتماعية تتماشى مع الطبيعة، أكثر منها فلسفة علمية، ونجد لذلك شواهد كثيرة في الشعر العربي وهو الذي يكاد يكون الوحيد الذي يحفظ لنا حكم العرب القديمة، حيث لم تكن الكتابة متوفرة في كل وقت وفي كل الظروف، ولهذا كان الحفظ والنقل الشفهي هو السائد، فشعر زهير بن أبي سلمى الذي بلغ 80 عامًا من العمر، وخبر الحياة وهو الهادئ بطبعه نجد في شعره مثالاً للحكمة لدى العرب ومنها قوله:
ومَنْ لَمْ يُصَانِعْ في أُمُورٍ كَثِيرةٍ
يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوْطَأْ بِمَنْسِمِ
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ
يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
ولنا أيضًا في شاعر جاهلي آخر مشهور، ولكنه أعمق في حكمته من زهير، وهو طرفة بن العبد الذي لم يعمر طويلاً حيث مات وعمره 32 عامًا مثالاً آخر، ومن ذلك قوله:
وَكَم مِن فَتىً ساقِطٍ عَقلُهُ
وَقَد يُعجَبُ الناسُ مِن شَخصِهِ
وَآخَرَ تَحسِبُهُ أَنوَكاً
وَيَأتيكَ بِالأَمرِ مِن فَصِّهِ
وتظهر الفلسفة في الصين أيضًا في تعليمات طاو الذي عاش في الفترة الانتقالية من حكم العشائر إلى الحكم الموحد، والذي صاحبه حروب وقتل، فخرج ينشر بين الناس تعاليمه، التي من أبرزها قوله : سر مع التيار، وأيضًا قضاء جزء من الوقت بممارسة بعض التمارين الرياضية، وذلك للبعد عن الآلام التي تصنعها الحروب، وأيضًا التمتع بالحياة ما أمكن ذلك، هناك فيلسوف آخر وهو كونفوشيوس الذي كان نائبًا لرئيس الوزراء، وترك منصبه، وأخذ يجوب الديار في الصين، ينشر تعاليمه المرتبطة بالعلاقة بين الراعي والرعية، والحاكم والمحكوم، ووجوب طاعة الرعية للراعي، وأيضًا التحلي بالأخلاق الحميدة، والتعامل بالصدق والأمانة والمحبة، وعمل بعض التمارين الرياضية للترويح عن النفس، وإعطاء الجسد مزيدًا من الصحة، ولا سيما أنه يربط ذلك أيضًا بالغذاء الجيد، لهذا فإن الفلسفة في الصين نشأت من البيئة السياسية الصينية في ذلك الوقت، ثم قدمت البوذية من الهند إلى الصين، ولها طقوسها، وتهتم بدراسة النفس البشرية والأحاسيس، وكيف يمكن للإنسان التعامل مع أحاسيسه والتغلب على ما يضره منها من خلال عمق التفكير، أو بممارسة بعض الأعمال الرياضية والتمدد الجسدي، لهذا فإننا نلاحظ أن الفلسفة في الصين، وفي الهند، وعند العرب، فلسفة نابعة من الطبيعة ترتبط بالإنسان والحياة الاجتماعية، لكنها لا تنتقل من الإنسان إلى التطبيق العملي، لأنها ليست مبنية على أساس علمي، وإنما على أساس اجتماعي.
وتبقى الفلسفة اليونانية سيدة المشهد الفلسفي لكونها مرتبطة بالتطبيق العلمي والعملي ومنها نبعت النظريات العلمية مثل قانون الطفو عند فيثاغورس، وغيرها من النظريات والعلوم الهندسية والطبية وسوف نفرد لها مقالاً خاصًا.