د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
لقد جذبني واقع الحال في أن أتناول في هذا المقال ما أوجزهُ شاعر النيل حافظ إبراهيم في قوله:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا
بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
وباعتبار أن مهمة الأم تشريعية في مقامها الأول {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (15) سورة الأحقاف.
وباعتبارها مهنة تخصصية رفيعة المستوى فهي النموذج الأكبر للمهن التي يقوم عليها المجتمع, وثمة نماذج أخرى تكبر مع حاجة الإنسان الذي كان مستهدفا أساسا لتلك المهنة العظيمة.
وأقفُ عند آليات العمل التربوي الذي تقوم به الأم في غالب المجتمعات اليوم حيث ينطلق من تحديد بسيط للسلوك المطلوب في الأبناء بما يرضي الواقع السائد ومن يحيطون به, وربما كانت تؤطره المجاملة وعندها يكون مقررا فريدا في نظر المجتمع عندما تُحسن الأم تدريسه وتفريغه في عقول المستهدفين من طلبتها الأبناء لأنه يمجد ذلك الأسلوب من التربية؛ ويمنح الأم وسام الاستحقاق ومن مفرداته: الانضباط في الجلوس والاستماع والتواري عن مناقشة الكبار, وقبول النقد المجرد من الأسباب بكل وقار وتجل.
وعندها تكون هذه الوثيقة من التخطيط التربوي المنزلي قد استخدمتْ كل المتاح لديها لتأصيل المفهوم الضيق للتربية المنزلية فالمقومات التي تُبنى عليها تلك الفكرة؛ هي اتباع نمط السلوك السائد داخل محيط العائلة في فصلها الصغير؛ أو الممتد في فصول أخرى.
ومن هنا فإن العلاقة التبادلية بين المنتج التربوي داخل الأسرة والمحيط المجتمعي عامة تفتقد إلى روح توافقية ملزمة لنشاط المجتمع ونموه, وكما تفتقد إلى تجديد أساليب التربية وفق واقع الحياة ومستجداتها.
وفي واقع اليوم كثيراً ما نلتفتُ وقد لا نجد في الأبناء العقل الذي يستطيع تقويم ما يحيط به, وقد لا نجد الشباب الذين يقدمون نقدا بناء لأقرانهم ولمجتمعاتهم وما بها من ظواهر، ولا نجد الحديث الممتع المقنع, وربما نجد ولكنها أبواق وعظية دون حرارة أو لذة, ولا يعني ذلك أنه لابد من قالب واحد للتربية داخل الأسرة, فمن المثير للجدل أن إحداث نقلة كبيرة في ثقافة الأمهات التربوية يدور فقط حول فئة الأميات اللاتي لا يجدن القراءة والكتابة؛ وهن قلة قليلة, بينما الأمهات داخل قطاعات العمل المختلفة من حملة المؤهلات العلمية, وكذلك المتعلمات اللاتي يؤثرن الدعة في بيوتهن, جميعهن يحتجن إلى جرعات داعمة ومتممة من النهج التربوي الذي يقيم الأوتاد, ويشحذ عقول الأبناء ليكونوا على {خُلُقٍ عَظِيمٍ}, ويكونوا {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}, ويكونوا {لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}, ويكونوا {أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}. وهنا لابد من دور جاذب لمؤسسات التنمية البشرية لنشر البذور النامية داخل الأسر من خلال ركنها الأساس وهو الأم. ومن المكاسب أن تثقيف الأمهات وتزويدهن باستراتيجيات حديثة لتربية الأبناء والتعامل مع واقعهم يعد مشروع تطوير حقيقي لكل متطلبات التنمية, حيث إنها قطب محوريّ ممتد, فليس من المؤمل في النشء أن يجد الطريق لاحبا فيسلكه أو الطعام مهيئا فيستهلكه, أو يأخذ بعامل التقليد أو دافع المحاكاة فلن يوفّى الكيل والبضاعة مزجاة, ولن تصفو المشارب والمنابع كدرة.
فالتوجه للاهتمام بتطوير ودعم ثقافة التربية المنزلية وفق المفهوم الحديث عند شرائح الأسر عامة والأمهات خاصة مطلب تنموي, واستراتيجية سامية الأهداف لدفع المعاني الجميلة في الحياة لتصل إلى عقول الأبناء لخلق التأثير والتأثر وتحويل التربية المنزلية إلى اندماج كامل في المجتمع؛ ويمكننا هنا أن نشير إلى بعض سبل التوجه في هذا السياق لصنعه وبناء أركانه, ونبدأ بالتأكيد على أن الأم سيرة مضاءة ترفع لها الرايات؛ وتسكن تحت أقدامها الجنات, فينبغي ألا يخذلها شركاؤها في التربية؛ وألا يعفي الواقع رسمها, وأن تضاء لها كل المؤسسات المحيطة, وفق ما تنسج من خيوط, فيكون لها في كل قطاع تربوي موئل دائم, ومع كل دار فكر قرار داعم, وأن تستهدف بالتدريب، وبرامج تطوير الذات؛ مثلما يُستهدف المربون في قطاعات التعليم, والمثقفون في قنوات التثقيف والآداب, والمرشدون في الشأن الاجتماعي, والأطباء والمسعفون في المصحات ومراكز التأهيل والوقاية.
وفي ظل حضور قوي للنمط ذي التأهيل العلمي من الأمهات, فإن إنتاج الأبناء فكرا وعملا محكوم حتما بدرجة عالية من التطابق؛ بين ما يصنع في بيئة المنزل من خلال منهج الأم, وبين صناعات شتى يحملها الشارحون, تتواشج فيها عناصر الاقتران التربوي, وتتساوق فيها كثير من المنابع التي تؤصل للفكر التربوي الواقعي الصحيح.