د. عيد بن مسعود الجهني
روى التاريخ في كل العصور صفحات ناصعة عن سماحة العرب والمسلمين في أحلك المواقف، وانتشرت حضارتهم ومبادئهم السمحة شرقا وغربا، مؤكدة سماحة دين الإسلام وحضارة العرب والمسلمين في ذروة مواقف الانتصار أو الانكسار.
وقد تجلت هذه الروح وانعكست على العلاقات الدولية مع الدول الأخرى، فعلى حين رأى العرب في بعض الدول في القرن التاسع عشر قوى استعمارية تطمع في استغلال الشعوب والثروات العربية، كانت الولايات المتحدة آنذاك على العكس من ذلك شريكا محايدا، لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى.
وتبعا لذلك ارتفع رصيد الولايات المتحدة عند العرب كدولة لا تطمع في غيرها من الدول، وحازت ثقتهم وتطلعهم إليها بما يحقق أهداف معظم الدول الطامحة لنيل الإستقلال، وصاروا ينتظرون دورها في تلبية تطلعات شعوب المنطقة، غير أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ما لبثت أن تخلت عن مبادئها في تدعيم استقلال الشعوب وحقهم في تقرير المصير وأسهمت في بث إسرائيل كيان غريب كالقنبلة الموقوتة في المنطقة.
والعلاقات السعودية - الأمريكية تأسست على مبدأ التوافق بين المصالح المشتركة لدولة صاحبة نفوذ كبير، ودولة عربية إسلامية ذات نفوذ ومكانة عربية وإسلامية ينظر إليها بليونا مسلم أنها قبلتهم ومثلهم الأعلى.
ومنذ عام 1933 كان منح امتياز البحث والتنقيب عن البترول السعودي لشركات النفط الأمريكية ليمثل ذلك التاريخ بداية العلاقات الأمريكية مع المملكة وأرسلت بعثة دبلوماسية أمريكية إلى المملكة بين عامي 1942- 1943م، وأقامت المملكة مفوضية لها في واشنطن في عام 1946م، وفي عام 1949 أصبحت للدولتين سفارة في كل من جدة وواشنطن.
ومنذ ذلك التاريخ والسياسة النفطية السعودية حافظت على خلق سوق نفطية مستقرة يخرج من رحمها سعر عادل، وأمريكا يهمها الحصول على هذه السلعة المهمة بأسعار مناسبة.
المملكة وأمريكا مع تعاظم المد الشيوعي واكتشاف مزيد من حقول النفط في الخليج العربي، تصدوا للخطر الشيوعي وأطماع الاتحاد السوفيتي (السابق) في الشرق الأوسط، واستمر هذا التعاون حتى أفول نجم الشيوعية.
تعاقبت الإدارات الأمريكية وتولى رئاسة الولايات المتحدة رؤساء من الحزب الجمهوري وآخرون من الحزب الديمقراطي، فبعد أيزنهاور الجمهوري جاء كيندي الديمقراطي ثم جونسون الديمقراطي ثم نيكسون وفورد الجمهوريان، ثم كارتر الديمقراطي ثم ريغان الجمهوري ثم بوش الأب وهو جمهوري أيضًا، جاء بعده كلنتون الديمقراطي ثم جورج بوش الابن الذي خلفه أوباما الديمقراطي ثم جاء دور ترامب الجمهوري، ولم تتغير المبادئ الرئيسة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، واستمرت الشراكة السعودية - الأمريكية مجتازة اختبارات صعبة إقليمية ودولية مثل حربي 1967 و1973، واحتلال دولة الكويت الشقيقة..الخ.
ومع كل تلك الإدارات تعاونت المملكة معها كحليف قوي في مكافحة الإرهاب لسنوات عديدة استطاعت الدولتان الحد من آفته، وعلى الجانب الآخر التصدي لمحاولات إيران التهديد بإغلاق مضيق هرمز الذي يعد معبرا رئيسا لمعظم نفط دول الخليج العربي.
وإذا كانت سياسة البيت الأبيض في عهد ترامب قد تبنت إلى حد معقول الحرص على سلامة المصالح السعودية - الأمريكية، وعدم ممارسة أي ضغوط على السياسة الخارجية السعودية لأي تغيير في مسارها الواضح الداعم للأمن والاستقرار في المنطقة والسلام العالمي، بل إن إدارة ترامب دعمت الجهود السعودية تلك التي رسمتها بوصلة سياستها الخارجية.
لكن اليوم في عهد السيد بايدن الديمقراطي الذي خلف ترامب تشهد السياسة الخارجية الأمريكية حالة من الارتباك ، وحالة من عدم اليقين متناسية أن العلاقات بين البلدين تأسست على توافق تام بين المصالح المشتركة، وإذا ما طرأ على هذا التوجه ما يعكر صفوه من قبل البيت الأبيض، فإن للمملكة مواقفها الثابتة، ولن يحدث عليها أي تعديل أو تغيير. وستبقى دولة العمق العربي والإسلامي.
وستبقى أيضا صاحبة مكانة لا يمكن لأي دولة أن تنافسها عليها.
المملكة تستورد معدات عسكرية من الولايات المتحدة لدعم أمنها واستقرارها كدولة محورية في المنطقة، وترى أن (قوة) تسليحها ضرورة وليست ترفا خاصة مع التهديدات الإيرانية المتعاقبة ومنها التهديد بإغلاق مضيق هرمز، ودورها الخطير في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وهذه الأسلحة المتطورة مدفوعة الثمن، وبلاد العم سام تحتاج قيمة السلاج لدفع عجلة إنتاج مصانعها، وخلق وظائف بأعداد كبيرة في سوق العمل الأمريكي.
وقد اعترف الرئيس السابق ترامب في ذلك مؤكدا في مؤتمرات صحفية عدة حاجة بلاده إلى المحافظة على تنفيذ عقود صفقات الأسلحة الحالية والمستقبلية مع المملكة والتي بلغت نحو (450) مليار دولار لعشر سنوات قادمة، منها (110) مليارات دولار معدات عسكرية.
وإذا تخلت الإدارة الأمريكية عن تعهداتها والتزاماتها فسوق السلاح مفتوحة في دول أخرى عديدة لها الرغبة الأكيدة في فتح صفحة مع المملكة لأنها تملك الثروة التي تفتح مصانع التسليح في العالم والرئيس ترامب نفسه اعترف بذلك عندما صرح بأنه (إذا لم نف بالتزاماتنا التسليحية مع السعودية فستذهب إلى كل من روسيا والصين).
وإذا كانت المملكة داعمة بقوة للنظام السياسي الشرعي المعترف به دوليا ضد جماعة الحوثي في اليمن، ولأن أمريكا (الديمقراطية) تدعم مثل النظام اليمني، فإنه من الأوْلى أن تمد المملكة ودول التحالف باحتياجاتها من المعدات العسكرية (مدفوعة الثمن) بل والوقوف مع هذا التحالف لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام في اليمن.
ولذا من المهم الوقوف في وجه التمدد الإيراني في اليمن حتى لا تصبح إيران أقوى في المنطقة كما قال وزير الخارجية الأمريكية السابق بومبيو (النزاع في اليمن ليس خيارًا بالنسبة للسعودية والإمارات، والتخلي عن اليمن يعرض مصالح أمريكا للخطر).
بلادنا هي العمود الفقري للأمن القومي العربي وكانت ولا تزال الحليف الذي يعتمد عليه في منطقة الشرق الأوسط للولايات المتحدة والغرب والشرق عموما، وقد جنى السلام في العالم ثمارًا كثيرة من هذا التحالف.
ومنذ عام 1979الوقوف في وجه ثورة الخميني وتحرير دولة الكويت الشقيقة، والتصدي للإرهاب، بشهادة الأمريكيين أنفسهم ومنهم رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق يقول (السعودية شريك عسكري للولايات المتحدة في الحرب الشاملة على الإرهاب)، ونائب وزير الدفاع الأسبق بول قال (نحن نحصل على تعاون جيد جدا من السعوديين في الحرب على الإرهاب)، وكلها مكاسب تصب في مصلحة دول وشعوب العالم.
وإذا كانت العلاقات السعودية - الأمريكية قد واجهت خطوطا من الظلال خرج من رحمها توترات سياسية أثرت في قوة تماسها في فترة من التاريخ عندما قطعت المملكة إمدادات النفط عن بعض الدول ومنها أمريكا عام 1973 خلال الحرب الإسرائيلية - العربية، وفي عام 2002 إثر الهجمات الإرهابية على برجي التجارة العالمي، الذي لم يثبت بدليل واحد قانوني علاقة للمملكة به، وعادت العلاقات إلى سيرتها الأولى من قوة التحالف.
وإذا كانت اليوم هناك ضبابية وحالة من عدم اليقين مع دخول الرئيس بايدن البيت الأبيض، فإن التاريخ السياسي والعلاقات بين الدولتين سيؤكدان أن المعلومات المغلوطة التي تتناثر هنا وهناك عن المملكة لا تخدم المصالح الأمريكية بل تلحق الضرر الجسيم بها، لأنها ليست حقائق وإنما مجرد خيال كالسراب هدفه أولا وأخيرا إلحاق الأذى بمسيرة علاقة حليفين نسجها الزمن، ورسمت لتبقى.. لا لتفنى.
والله ولي التوفيق..
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة