محمد سليمان العنقري
قد يكون من النادر أن تتفق بيوت الخبرة بقطاع المال والاعمال وكذلك المحللون الاقتصاديون عالمياً على ان السياسات النقدية التي تقوم باتخاذها البنوك المركزية بالاقتصادات الكبرى لن تكون قادرة على معالجة ملف التضخم، فغالبية التوقعات اتجهت لهذا الاحتمال وبنسب كبيرة لان ارتفاع اسعار السلع حالياً فاق كل التوقعات وتشعبت أسبابه بمزيج بين الاقتصاد والسياسة، ولعل البنك الفيدرالي الامريكي الذي يعد المؤسسة الاكثر موثوقية في اميركا خير مثال على الانطباع الذي ساد حول قدرة البنوك المركزية بمواجهة التضخم حيث انه اخطأ في تقديره الى ان هذا الارتفاع باسعار المستهلكين عابر او مؤقت، بينما اضطر بعدها بشهور قليلة للقول انه ليس مؤقتاً بل سيمكث لفترة طويلة مما شكك بمصداقية البنك ومجلسه ومدى قدرتهم على لعب الدور المناسب بالوقت والادوات لكبح التضخم الذي تعيشه اميركا اكبر اقتصاد عالمي، حيث وصلت نسبته الى 8،6 بالمائة كأعلى معدل منذ اربعة عقود.
فالعالم يعيش مرحلة من ارتفاع الاسعار لم يمر بها منذ عقود وتتزامن مع بقايا تداعيات ازمة صحية واقتصادية ضخمة تسبب بها فايروس كورونا الذي مازال يصنف كجائحة، حيث تسبب الاقفال الكبير لمعظم الانشطة بكل دول العالم بنقص هائل بانتاج السلع مما ادى لارتفاع اسعارها مع عودة الطلب الكبير الناتج عن الضخ الكبير للاموال بأغلب الدول بما وصل لحوالي 30 تريليون دولار تنوعت بين حزم تحفيز مباشر للمنشآت او الافراد وتمويل وتيسير كمي مع خفض لاسعار الفائدة لمستويات شبه صفرية، مما انعكس بارتفاع ضخم باسعار الاصول والسلع دون استثناء، كما ان ما حدث يعد ايضاً امتداداً للاثر الناتج ايضا عن نفس السياسات التي اتخذت في الازمة المالية العالمية عام 2008م. اما على صعيد سلاسل الامداد التي يعاني معها العالم فيمكن اعتبارها ازمة غير مسبوقة رفعت تكاليف الشحن لمستويات تآكلت معها ارباح الشركات بالرغم من رفعهم للاسعار، ويضاف لاثار جائحة كورونا الحرب الروسية الاوكرانية التي ألهبت اسعار القمح والحبوب منذ بداية العام لتتخطى نسب ارتفاع اسعارها 37 بالمائة للقمح و20 بالمائة كمتوسط للحبوب، فالدولتان من اكبر مصدري هذه السلع بما يمثل 30 بالمائة من حجم الصادرات عالمياً ومن المرجح ان تستمر الاسعار مرتفعة لفترة طويلة بسبب هذه الحرب، اضافة لتأثيرها على رفع اسعار الطاقة والمعادن لان روسيا من اكبر منتجي و مصدري هذه السلع، فهذه الاسباب تعد خارج قدرات البنوك المركزية لاحتوائها فتجفيف السيولة ورفع اسعار الفائدة قد لا يفضل الا لادخال اقتصادات تلك الدول بركود لمعالجة التضخم، بينما سيبقى تاثير ارتفاع الاسعار من ضعف الانتاج او الحرب الروسية الاوكرانية فائماً ما لم يتم حل هذه الملفات، فقيام الفيدرالي الامريكي برفع اسعار الفائدة قبل ايام قليلة بواقع نصف نقطة مئوية لم يفاجئ الاسواق ولم ير الاقتصاديون في اميركا انها خطوة قادرة على لجم التضخم او انها تعد مكابح قوية لايقاف صعوده ولذلك بعد ان ارتفعت عقب الاعلان مؤشرات الاسواق الامريكية بنسب عالية عاودت الهبوط لتمحو مكاسبها لعدة اسباب، اهمها العودة السريعة لتوقعات بأن يضطر الفيدرالي الامريكي لرفع اسعار الفائدة بنسبة ثلاثة ارباع النقطة دفعة واحدة بالاجتماع القادم بعد حوالي شهر تقريباً رغم ان رئيس البنك جيروم باول المح لرفع بربع نقطة لكن التخبط بتقديرات مجلس البنك نهاية العام الماضي حول نظرتهللتضخم التي تغيرت من ارتفاع مؤقت لارتفاع سيطول هزت مصداقية البنك الفيدرالي، لكن بالعودة لجوهر اسباب ارتفاع التضخم فإن العوامل الاخرى السياسية المتمثلة بالحرب الروسية الاوكرانية والمتعلقة ايضاً بضرورة حل مشكلة سلاسل الامداد وايضاً التخلي من قبل دول مهمة بالانتاج العالمي كالصين عن اجراءاتها المشددة لمواجهة فايروس كورونا يعد الحل لكل هذه العوامل العلاج الحقيقي لمشكلة التضخم، يضاف لها ايضا اعادة تعزيز التعاون الدولي التجاري والاقتصادي لتسهيل حركة التجارة والاستثمار عالمياً وضرورة التغيير بسياسات بعض الدول الغربية اتجاه الاستثمار نحو رفع الطاقة الانتاجية للنفط والغاز، واعادة النظر بنسب مزيج الطاقة لديها كما ان بعض سياسات التحفيز التي اتخذت اثرت على الانتاجية بتلك الدول كدعم الاسر باميركا بمبالغ جعلت ارباب تلك الاسر لا يعودون لاعمالهم مادامت هذه الاعانات تصرف، مما قلل الايدي العاملة ورفع الاجور وهو ما يحدث ايضا ببعض دول اوروبا فاقحام المقاصد السياسية لاهداف انتخابية في معالجة ملفات اقتصادية مهمة يعطي نتائج معاكسة وهو ما يعيشونه من ارتفاع باسعار المستهلكين وتعطل لتفريغ السفن يمتد انتظارها بموانئهم لاربعة اسابيع مما يقلل العرض ويرفع الاسعار.
لن تتمكن البنوك المركزية الكبرى لا في اميركا او اوروبا من معالجة التضم فالحلول لدى حكومات دولهم بالاضافة لضرورة معالجة الملفات السياسية الملتهبة فاستمرارها سيوسع نطاق تأثيرها السلبي ويجعل التضخم جامحاً ويصعب السيطرة عليه ويدخل اغلب دول العالم بركود تضخمي لن يكون الخروج منه يسيراً او بمدة قصيرة وقد تتوسع اثاره لانفلات واسع النطاق في الحرب القائمة بين موسكو وكييف ليصل الى حرب عالمية ثالثة مسرحها الرئيسي اوروبا لا احد يتمناها ولا يمكن توقع مآلاتها اضافة لعدم الاستقرار الذي ستدخل به دول فقيرة نتيجة ارتفاع تكاليف الغذاء لديها وعدم قدرتها على تأمينه.