كانت آخر ثماني سنوات من حياة زوجتي السيدة نورة بنت محمد العديلي (أم راكان) -رحمها الله- معاناة وصراعاً مع مرض السرطان، وقد قضت هذه السنين مترددة بين مدينة الملك عبد العزيز الطبية بالحرس الوطني، ومستشفى الملك فيصل التخصصي، ومستشفى الدكتور سليمان الحبيب، ومركز ميموريال سلون كيترنج للسرطان بنيويورك بأمريكا وهو أقدم وأكبر مستشفى متخصص في علاج السرطان.
ولذلك أجرت خلال هذه السنوات أربع عمليات جراحية رئيسة وكبيرة، إضافة إلى عدد من العمليات الصغيرة وعمليات اليوم الواحد، كما خضعت لعلاج كيميائي أكثر من أربع مرات على فترات متباعدة نوعاً ما وعلاج إشعاعي مكثف لأكثر من أربع مرات كذلك، وفي كل مرة تنال الحد الأقصى الممكن من جلسات العلاجين الكيميائي والإشعاعي، والله يكتب ذلك في موازين صبرها واحتسابها.
وعندما خلص الأطباء المختصون إلى عدم نجاعة وفاعلية هذه الطرق والأساليب المعروفة لعلاج مرض السرطان؛ شرعنا نبحث معهم عن أساليب وطرق أخرى محتملة ومقرّة من الهيئات المتخصصة المعنية، وإن كانت غير منتشرة ولم تأخذ بها بعض المستشفيات أو لم يثبت فعاليتها لعلاج بعض أمراض السرطان مثل النوع الذي أصيبت به أم راكان، فتم التواصل مع عدد من الأطباء في مستشفى الميموريال الذي تعالجت فيه بنيويورك وبعض المستشفيات في ألمانيا، وبناء على ذلك استخدم الأطباء في المملكة كلاً من العلاج المناعي والعلاج الهرموني، وجمعوا بين العلاجين من منطلق لعل وعسى.
كانت رحلة طويلة من المعاناة دائمًا والصمود كثيرًا والضعف أحيانًا، فيها التحمل تارات وفيها الانهيار تارة أخرى، وفي جميع الأحوال ظل إيمانها بخالقها وثقتها برحمته راسخاً، وبقي الأمل حياًّ بأن الأمر سيصبح غداً أفضل.
ولعلي هنا أذكر موقفين من المواقف التي عشتها معها ومثلا لها قمة الألم والانكسار؛ فالموقف الأول عندما علمنا بإصابتها، وأخبرنا الطبيب الجراح بأن المرض لديها في مرحلة متقدمة، وأنه من النوع العنيف (قالها بالإنجليزية Aggressive وهي باللغة الإنجليزية أشد وقعاً وأكثر تأثيراً)، فتهاوت من على الكرسي الذي كانت جالسة عليه بيد أنها استعادت توازنها فيما بعد.
أما الموقف الثاني فكان حينما طلبت منها الطبيبة التي ستجري لها عملية جراحية بالبطن في مستشفى الميموريال بنيويورك التوقيع بالعلم والموافقة على كل فقرة من عشرات الفقرات التي شغلت أربع صفحات كاملة، ومن بينها فقرة تنص على أنه من المحتمل عند البدء بالعملية اكتشاف أن المرض أوسع انتشاراً مما نعتقد وبالتالي فلا جدوى من إجراء العملية، وحينها سيتم التوقف وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، أما الفقرة الأخرى الأكثر إيلاماً ووجعاً فتنص على إمكانية حصول الوفاة خلال إجراء العملية!
فأخذت أربت على كتفها، وأمسك يدها مساعداً إياها على التوقيع، ومحاولاً التخفيف من وقع جليل الخطب عليها؛ فما كان منها إلا أن بدأت بالتوقيع على الفقرات فقرة فقرة شاخصة بنظرها نحوي حيناً لتعود إلى التوقيع حيناً آخر، والدموع المنهمرة من مقلتيها تبلل الأوراق الصماء، وكانت لحظات موجعةً لي وأنا أرى رفيقة الدرب تذوي، ولربما أنها سوف تفلت من بين يدي في أي لحظة دون أن يكون لي أي حول أو قوة!
تمثل السنة الأخيرة في حياتها قمة العناء؛ فقد اشتدت وطأة المرض عليها، وواصل السرطان انتشاره في أجزاء الجسم المختلفة. وفي مساء اليوم الأول من رمضان لعام 1442هـ بدأت تشعر بآلام حادة وشديدة بالبطن، وارتفاع متوال في درجة الحرارة، مما استدعى نقلها للمستشفى. وقضت في ضيافة المستشفى ستة أشهر كنا نعمل جاهدين أن يكون معها وحولها أكبر عدد ممكن منا، واحتفلنا بعيدي الفطر والأضحى المباركين نحن وأحفادها معها بالغرفة.
وبعد التحسن النسبي لحالتها الصحية رغبت أن تغادر المستشفى وقضاء الوقت بين أولادها، وأمام هذه الرغبة وبدعم من الأطباء وتشجيع لهذا التوجه تم لها ما أرادت وأمضت ستة أشهر أخرى بالبيت بعد أن رتبنا لها مع المستشفى الرعاية الطبية المنزلية، ومراجعة المستشفى أسبوعيًا لمعالجة أي خلل يحدث نتيجة انخفاض أو ارتفاع معدلات بعض المعادن والعناصر الغذائية الأخرى.
ورأى بعض الأطباء في المملكة وآخرون من ألمانيا بعد استشارتهم في حالة أم راكان (رحمها الله) أن المرض قد استشرى، وأنه لن يمهلها أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر، وأن ما يمكن عمله في هذه الحالة هو إعطاؤها الأدوية التلطيفية والمسكنات للتخفيف من حدة الآلام. غير أنه كان هناك أطباء آخرون رأوا ألا نتوقف عن الأخذ بالأسباب؛ فأجريت لها عملية رئيسة، وأعطيت علاجاً كيميائياً مخففاً، وفي مرحلة تالية جمع لها بين العلاجين المناعي والهرموني.
وبناءً على احتمالية معطيات الفريق الأول من الأطباء تم التفاهم والتنسيق مع معالي الأخ والصديق الدكتور عبد الواحد الحميد (رئيس هيئة النشر ودعم الأبحاث بمركز عبد الرحمن السديري الثقافي) للاستعجال بطباعة نسخة واحدة من كتابي خلاصة الأيام الذي أسرد فيه سيرتي وقصة حياتي التي تمثل أم راكان ركنًا مكينًا فيها؛ كي أتدارك الوقت وأهديها أول نسخة منه فذلك سوف يسعدها ويبهجها.
وبجهود ومتابعة شخصية مباشرة من معالي الدكتور عبد الواحد تمت طباعة النسخة الأولى على عجل، وكانت لحظات الإهداء وهي راقدة على سريرها في المستشفى مساء 13 رمضان من عام 1442 هـ لحظات مؤثرة جداً لا تُنسى إذ اختلطت فيها دموع الألم مع دموع الفرح؛ لينتهي الموقف بحالة معنوية عالية، وفرح شديد لها ولنا نحن الذين كنا نتحلق حول سريرها، وهو تفاعل لا استغربه منها وهي سيدة في التضحية والعون والفرح بالنجاح.
ثمّ شاء الله سبحانه وتعالى أن تعيش أم راكان عاماً كاملاً بعد الأول من رمضان لعام 1442هـ مما منحنا نحن أفراد أسرتها استثمار الوقت لتحقيق بعض ما كانت تأمل رؤيته وحدوثه في حياتها. فمن ذلك أن استطاع الأبناء والبنات تدبير أمر الحصول على سكن خاص لكل منهم يقع على مسافة قصيرة جداً من منزل الأسرة، كما مُنحت ابنتنا بلقيس درجة الدكتوراة في الطب من جامعة مانشستر ببريطانيا عن رسالتها في مجال العلاج المناعي لمرض السرطان والتي أهدتها لوالدتها رفعاً لروحها المعنوية وتعزيزاً لصمودها أمام هذا المرض الخبيث، وأخيراً وقبل أيام من وفاتها عُقد قران الابن دحام على ابنة عمه، وبهذا تكون غاليتي الأثيرة قد رأت قبل رحيلها جميع أبنائها وبناتها متزوجين مستقرين.
أما آخر مشهد في حكايتنا الأليمة فهو في الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل من يوم الأربعاء 19 من رمضان لعام 1443هـ الموافق 20 إبريل عام 2022م، إذ أسلمت صاحبتي روحها لبارئها راضية مطمئنة، بعد أن ساعدتها ابنتاها أروى وبلقيس في ترديد الشهادتين عدة مرات.
رحلت أم راكان وهذه إرادة أرحم الراحمين، رحلت وتركت أثراً جميلاً بأبناء وبنات صالحين هم راكان وأروى وبلقيس ودحام وباسل، وكان لها التأثير الأساسي والمحوري في تعليمهم وتربيتهم ليكونوا على مستوى عالٍ من التأهيل العلمي والكفاءة في العمل. أسأل الله ربنا أن يغفر لها ويرحمها ويعفو عنها وأن يجمعنا وإياها في جنات النعيم، وأن يجعل ما أصابها من عناء وبلاء من الأجر الباقي لها، ورفعة الدرجات التي تنتظرها في يوم الدين، آمين آمين آمين.
** **
- فهاد بن معتاد الحمد