سعد بن دخيل الدخيل
شدني الموجز التاريخي الذي تحدَّث به الأخ والصديق سعادة الأستاذ محمد الدخيني مدير عام الاتصال الإستراتيجي ودعم العملاء والمتحدث الرسمي في الهيئة العامة للإحصاء خلال اللقاء العلمي الذي نظمه مركز «إعلاميون» للدراسات والاستشارات الإعلامية بجمعية «إعلاميون»، وكان بعنوان: «تعداد السعودية 2022 وتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030»، وقد تحدث في نقاط مختصرة عن بدايات الإحصاء في السعودية وأكد أن التعداد مشروع وطني الاهتمام فيه من أعلى القيادة لأصغر مواطن ونتكامل لبناء هذا الوطن. وهذا الحديث عن الإحصاء وتاريخه جعلني أرجع لسيرة الإمام عبدالعزيز وكيف أنه أعد للمستقبل بفكره وطموحه دولة فتية نهضت من الصفر منطلقاً من فتح الرياض واستعادة ملك الآباء والأجداد حتى أصبحت دولة عالمية لها وزنها وقيمتها. يقول السياسي البريطاني أنتوني ناتنج: «جملة القول إن الملك عبدالعزيز قد نجح في تحويل مجتمع الجزيرة العربية من قبائل مقتتلة إلى شعب يعي معنى المواطنة والاستقرار، والتحول من طور البداوة والرعي والارتحال إلى الزراعة والأسرة، كما نشر روح المعرفة وطلب العلم بل وتطوير مفاهيم المجتمع برمته والانتقال به من التخلف إلى مرحلة جديدة تماماً من الحضارة البشرية رقياً وتقدماً، وهو ما يُعدّ بكل مقاييس العلم من أكثر المعجزات نظراً للظروف التي مرت بها شبه الجزيرة في القرون السابقة، كذلك لا يمكن إغفال القدرة التطويرية وارتباطها بحقيقة التغيير الاجتماعي والاقتصادي، ويستشف من جهود الملك عبدالعزيز أنه سبق بنفسه الكثيرين من رعاياه إلى تقبل التغيير والتطوير»، والإحصاء كان له نصيب من الاهتمام، وكانت الإحصاءات تقتصر على الصحة والحج وحركات البواخر وحمولاتها وبعض الإحصاءات الطارئة وكانت صحيفة أم القرى تنشر إحصاءات أسبوعية وتعنونها بـ «الإحصاء الصحي»، كالتي نشرت في العدد 645 ليوم الجمعة 5 صفر 1356هـ الموافق 17 أبريل 1937م ونص الخبر: «عن الأسبوع المنصرم في 10 أبريل 1937م الموافق 28 محرم 1356 لمكة والمدينة وجدة والطائف وينبع والجوف. الإصابات بالأمراض العفنة: زحار22 سل الرئة 3 جذام 1 تيفوئيد1 جدري الماء 3 ضنك1 حصبة 1 حمى نفاسية 3 المجموع 35. الوفيات بالأمراض العفنة: حمى نفاسية 2 تيفوئيد1 المجموع 3. الوفيات بالأمراض العادية: رجال 46 نساء 16 أطفال 32 المجموع 94 الموجود القديم 140 الداخلون 60 الخارجون 49 المتوفون 9 الباقي142. افحص والتداوي بالأشعة والكهرباء: جرى فحص 15 شخصاً تحت الدرئة وتداوى اثنان بالأشعة و17 بالكهرباء بأنواعها. العيادات العامة: بلغ عدد مراجعي مستشفيات الصحة العامة ومستوصفاتها 2758 شخصاً منهم 76 بالأمراض الأذنية و192 بالأمراض العينية و57 بالأمراض بالزهرية و178 النسائية. حركة البواخر: وبتاريخ 1 الجاري أبحرت الطائف إلى سواكن وعليها 756 حاجي منهم 69 صغارًا وبتاريخ 3 منه أبحرت الباخرة مصوع إلى مصوع وعليها ستون راكباً وبتاريخه أبحرت الباخرة الطائف إلى السويس وعليها 194 راكباً منهم 5 صغار».. وهكذا ترسل جهة من الجهات إحصاءات قد تكون أسبوعية كمصلحة الصحة العامة أو أنها دورية كالبلديات والشرط، وفي موسم الحج تكثف الجهات المشرفة على الحج إحصاءاتها لأهمية الموسم. وحين رأى المؤسس تعدد الجهات وكل جهة ترسل إحصاءات وأرقامًا قرر في عام 1356هـ تأسيس مصلحة للإحصاء لتقوم بجميع عمليات الإحصاء والتعداد وزودها بالتعليمات اللازمة، وقد نشرت صحيفة أم القرى في عددها 745 للسنة الخامسة عشرة في يوم الجمعة 3 صفر 1358هـ الموافق 24 مارس 1939م مقالاً بعنوان: «إحصاء النفوس في المملكة العربية السعودية ضرورته ومنافعه وأثره الاجتماعي»، وجاء في مقدمته: «يعرف القراء أن إحصاء النفوس ضرورة لازمة وحاجة ماسة في حياة كل أمة متمدنة على وجه الأرض، ولذلك عُنيتْ به كل الأمم عناية فائقة وصُرفت الجهود الكبيرة المتتابعة لإتقانه وإخراجه على وجه دقيق للأسباب التي نذكرها فيما يلي، وقد كانت حكومتنا -أيدها الله- على علم بهذا الموضوع منذ تولت مقاليد الأمر في هذه البلاد ولكنها لم تتعجل البدء به لانصرافها إلى ما يقتضي الاستعجال من المرافق الحيوية المتعلقة بالناحية الأهم في خدمة البلاد جريًا على خطتها في متابعة الأعمال الإصلاحية على قاعدة «تقديم الأهم على المهم». ووفق المقال فقد كان مقرراً عمل تعداد شامل حيث جاء في المقال «وقد رأت حكومة جلالة الملك المعظم أن الوقت الملائم قد حان لتنفيذ هذه الفكرة واجتناء نفعها، فأسست منذ نحو عامين مصلحة للإحصاء وزودتها بالتعليمات اللازمة وهيأت الفرصة للأمة أن تحصي نفسها وأن تسلك شخصيتها في عداد الشخصيات العالمية المعروفة، واعتمدت النفقات المطلوبة لعمل كهذا العمل وأمرت بتنفيذه». وأشار المقال لأهمية توعية الناس بهذا المفهوم الجديد عليهم وإزالة ما قد يلبس عليهم ويقودهم لرفض أو عدم التعاون مع عمليات اإحصاء، حيث ورد في المقال ما يلي: «ولما كان الإحصاء في ذاته فكرة جديدة على هذه البلاد لا يعرفها إلا الذين هم على علم بأمور الحياة أو الذين خالطوا غيرهم من الأمم الأخرى، فقد نظر إليه بعض البسطاء نظرة غريبة، نظرة الرجل الذي يرى شيئاً ولا يعرف كنهاً ولا سبباً ولا أصلاً، وهذا الذي وقع عندنا في نفوس بعض البسطاء كما قلنا قد وقع نظيره تماماً بل وأكثر في الأمم التي أدخلت على بلادها الإحصاء، وعلى سبيل المثال نذكر أن بعض الأقطار المجاورة أرادت تعمل الإحصاء في بلادها منذ عشر سنين فوجدت تساؤلاً غريباً وارتباكاً في نفوس بعض العامة من الأفراد فلم يثنها ذلك عن المضي في طريقها وإنما عمدت إلى شرح الفوائد الاجتماعية التي تجنى من وراء ذلك وطمأنت الناس إلى أن الإحصاء لا يرمى من ورائه إلى غير ما قُصد به من العمل الاجتماعي، وقد كان يظن في تلك البلاد - والتجنيد فيها إجباري بالاقتراع- أنه يراد من ذلك إحصاء الناس لتجنيدهم ومعرفة الهارب من وجه الاقتراع العسكري، فلمَّا شرحت نظريتها اقتنع بها من لم يعرفها من قبل وأقبل الناس على الإحصاء بنفوس منشرحة وصاروا يطبقونه كل عشر سنوات مرة». ويكمل المقال توعيته للشعب السعودي بشرح فوائد هذا الإحصاء بقوله: «لذلك يسرنا أن نشرح لمن لا يعرف من مواطنينا فوائد إحصاء النفوس، فقد قلنا إنه عمل اجتماعي لا دخل فيه لغير الشؤون الاجتماعية، ومن المعروف أن كل إحصاء يرمي فائدة لما يترتب عليه من معرفة دقائق النقص في النواحي التي يجري فيها الإحصاء، وهو عمل لا يستغني عنه الفرد في كل شأن من شؤونه، فالإنسان ملزم بغريزته أن يحصي أمواله وأن يحمي أمواله وأن يحصي كل ما له به علاقة ليتفقد وجود النقص ويعمل على تلافيها، والحكومات شأنها في ذلك شأن الأفراد بل هي أمس حاجة وأكثر مسؤولية لما في أعناقها من التزامات نحو شعبها. ومن هنا نشأت فكرة إحصاء الشعوب إحصاء دقيقاً لمعرفة الناحية التي فيها نقص والتي تحتاج إلى علاج، وأول ذلك معرفة عدد أفراد الشعب ومعرفة العوامل التي تؤدي إلى زيادته ونموه ومعرفة مقدار مواليده ووفياته من الأطفال والأسباب الباعثة على ذلك والعلاج الذي يحتاج إليه وما هو بسبيل ذلك من المعلومات الدقيقة التي يؤدي الوقوف عليها وتلافي أوجه النقص فيها إلى سعاة الأمة ورقيها الاجتماعي وتوفير الهناء لها والسعادة لمجتمعها الإنساني». واختمت الصحفية هذا المقال بدعوة الشعب السعودي للإقبل على الإحصاء: «ولا يفوتنا قبل أن نختم كلمتنا أن نشير إلى الغرض الذي رمينا إليه من ورائها وهو لفت نظر مواطنينا إلى زيادة الإقبال على أعمال إحصاء النفوس ليتم في وقت وجيز تحقيق الغرض الذي يرمي إليه وهو معرفة أفراد الشعب السعودي وإحصاؤهم وخدمة الناحية الاجتماعية في حياتهم بسد ما يكون واقعاً من النقص في بعض نواحيها وخدمة ما تحتاج إليه من النهوض». إلا أن أول تعداد سكاني رسمي شامل كان عام 1394هـ بموافقة سامية على قرار مجلس الوزراء رقم 1101 تاريخ 17 شعبان 1994هـ بتحديد موعد تعداد السكان في الفترة 22-29 شعبان 1394هـ، وجاء في الموافقة السامية ما يلي: «وحيث إنه سوف يتم خلال تلك الفترة تسجيل المعلومات من جميع سكان المملكة في وقت واحد ولضمان الانتهاء في الوقت المحدد وبعد ذلك مراجعة البيانات وتصحيحها حسب الخطة الموضوعة في اليومين الآخرين مما يتطلب وجود نساء الأسرة في المسكن خلال 28 و29 /8/94هـ فقد تقرر أن تكون ساعات الدوام الرسمي في الوزارات والدائر الحكومية والمؤسسات العامة والشركات يومي 28و29-8-94هـ اعتباراً من الساعة الحادية عشرة صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر لتسهيل عملية التعداد في مراجعة بيانات السكان التي تم تسجيلها قبل هذه الفترة». وقد وجه سمو نائب أمير منطقة مكة المكرمة الأمير أحمد بن عبدالعزيز يوم الاثنين 22 شعبان 1394هـ الموافق 9 سبتمبر 1974م كلمة للمواطنين من الإذاعة والتلفزيون بمناسبة بدء الحملة الشاملة لتعداد وإحصاء السكان وجاء فيها: «يعتبر التعداد الشامل للسكان وسيلة عصرية تتبعها الدول المتقدمة لإحصاء الإمكانات البشرية التي تتمتع بها البلاد وما يرافق هذه الإمكانات من ظروف معيشية تكون الأساس الذي تبقى عليه مخططات المستقبل وخطوط التطور والازدهار»، كما جاء فيها: «وإنكم أيها الإخوة المواطنون مدعوون للمساهمة في إنجاح هذا المشروع بالتعاون مع مندوبي التعداد الذين سوف يزورونكم في منازلكم لتجيبوا على أسئلتهم بأدق ما يمكن من الإجابات، لأن إجاباتكم هذه يتوقف عليها مدى نجاح التعداد لتحقيق الغايات المأمولة منه»، وطمأن سموه في كلمته على أن البيانات والمعلومات غير متداولة، حيث قال: «وأرى لزاماً أن أوجه عنايتكم أيها الإخوة إلى أن المعلومات التي ستعطونها لمندوبي التعداد ستكون سرية حتماً وهي لن تستخدم إلا في إعطاء صورة صحيحة عن إمكانات البلاد وواقعها ولن يطلع عليها سوى موظفي التعدادوقد نص المرسوم الملكي الكريم رقم 23 في 7-12-79هـ على سرية التعداد وعلى ضمان عدم إفشاء أسرار المعلومات التي يدلي بها المواطنون»، وشارك الكثير من المواطنين في عملية العد من المعلمين والموظفين والعسكريين وممن يقرؤون ويكتبون من الموطنين والطلاب. ويحدثني الشيخ فرحان بن حسين الكبيشي شيخ شمل قبائل آل خالد (بني مالك خولان) بمحافظة الدائر في منطقة جازان وعضو مجلس المنطقة، وهو من الذين شاركوا في أول تعداد للسكان عام 1394 فيقول: «علمت بالتعداد السكاني عن طريق شيخ القبيلة الذي تم إبلاغه عن طريق رئيس المركز وبدوره يبلغ عراف القبيلة والأعيان، كما كان هناك ما يسمى (بالمهجم) في السوق الذي كان يوم الأربعاء وطريقته: يأتي خوي من الإمارة ويطلق طلقة من بندقيته في الهواء فيتجمع الناس عليه فيصعد شخص معروف بصوته الجهوري يسمى (بالمهجم) إلى سطح أحد الدكاكين ويبلغ الناس ببدء الإحصاء، وكانت مهمتي هي مرافقة مدير مدرستي الابتدائية التي أدرس بها وكنت أيامها منتقلاً من الصف الأول المتوسط إلى الصف الثاني متوسط بمدينة أبها كون مركز بني مالك (محافظة الدائر حالياً) لا يوجد به سوى مدرستين ابتدائيتين بنين، وكنت أحمل الحقيبة التي بها الأوراق وأساعد في كتابة الأرقام على الأبواب بنوع أبيض يشبه الطباشير»، ويضيف الشيخ فرحان بأن الدولة كانت حريصة جداً على إنجاح التعداد ووظفت عددًا كبيرًا من المعلمين والمرافقين واستأجرت السيارات والدواب لإتمام المهام، وكان الناس متعاونين مع أن الغالبية لا يدركون ولا يعلمون الغرض الرئيس من الإحصاء إلا أن هذا التسجيل للأسماء للدولة فقط، بل لديهم طيبة وكرم ويستقبلون العاملين في العد ويعطونهم جميع ما يطلبون من معلومات ويقابلون بالكرم الأصيل، فالغداء والعشاء يجهزان لهم من الصباح حيث يتم إبلاغ العاملين الذي قدموا لإجراء التعداد من كبير القرية بأن الغداء عند فلان والعشاء عند فلان، وكما يقال: «الجود من الموجود»، ويقول الشيخ فرحان: «بالنسبة لمن هو في الإحصاء وهو من خارج القبيلة أو المركز فإقامته في بيت شيخ القبيلة حتى انتهاء مهمته، وهذا عرف سائد حتى اللجان الحكومية من الداخلية والصحة والزراعة والتعليم وغيرها تكون إقامتهم عند شيخ القبيلة حتى انتهاء مهمتهم حتى وقت ليس بالبعيد». ومن أهم الصعوبات التي واجهها العاملون في التعداد عام 1394هـ خاصة في المناطق الجبلية في الجنوب التنقل بين القرىشياً على الأقدام لعدم وجود طرق للسيارات، إلا أن المكافأة التي حصل عليها الشيخ فرحان كمرافق لموظف التعداد ممتازة فقد كانت ما يقارب 4300 ريال وموظف التعداد يحصل على ضعف هذا المبلغ. وقد بلغ عدد السكان في المملكة العربية السعودية وقتها نحو 7 ملايين نسمة، وكان التعداد الثاني في عام 1413هـ - 1992م، ثم أُجرِي التعداد الثالث في عام 1425هـ - 2004م، ويُعدُّ تعداد 1431هـ - 2010م التعداد الرابع في سلسلة التعدادات التي نفَّذتها مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات قبل أن يتم تحويلها إلى الهيئة العامة للإحصاء، وقد بلغ إجمالي عدد السكان في هذا التعداد 27.136.977 نسمة. واليوم نحن على أعتاب نقلة نوعية من خلال تعداد السعودية 2022 فقد صدرت موافقة الملك سلمان بن عبد العزيز في 26 يناير 2022، بأن تكون ليلة الإسناد الزمني للتعداد العام للسكان والمساكن لعام 1443هـ/ 2022م، في مساء يوم الاثنين 8 شوال 1443هـ الموافق 10 مايو 2022م. ويتميز تعداد السعودية 2022م بتوفير خيار العدّ الذاتي الذي يُمكن من خلاله استيفاء بيانات استمارة التعداد إلكترونيًّا عن طريق بوابة الهيئة على الإنترنت دون الحاجة إلى زيارة الباحث الميداني، فيما ستستمر مشاركة الباحثين الميدانيين للتأكد من شمول التعداد لجميع شرائح المجتمع من مواطنين ومقيمين داخل المملكة.
وختاماً فقد أعد الملك المؤسس قاعدة مستقبل هذا الوطن وأرسى دعائمه من خلال الاهتمام الإستراتيجي بالإحصاء وتبعه الأبناء، واليوم يتم رسم مستقبل الوطن من خلال تعداد السعودية 2022، وعلى الرغم من توفر العديد من المعلومات والبيانات من خلال مصادر المعلومات الرقمية المختلفة لأجهزة الدولة وتطبيقات الأجهزة الذكية، فإن تعداد السعودية 2022م يظل ويبقى ركيزةً أساسيةً لرؤية المملكة 2030، الطموحة المتفائلة.
حفظ الله مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان وحمى الله هذا الوطن الغالي ومنحه الأمن والأمان.