عبدالوهاب الفايز
في الأسبوع الماضي صدر الأمر الملكي الكريم بإنشاء هيئتين جديدتين لكل من محافظتي الطائف والأحساء. هذا التوجه لإنشاء الهيئات العليا يخدم احتياجات التنمية الملحة والمتجددة لمدننا، ويعظم الاستفادة من تجربتنا الوطنية مع الهيئات العليا للمدن والتي أثبتت نجاحها في قيادة التخطيط والتنمية للمدن الكبرى كما حدث في مدينة الرياض، والتي نجحت منذ قيامها في توجه نمو العاصمة، وقادته إلى المسارات المستقرة التي نراها الآن، والتي حمت العاصمة من تنامي مشاكل المدن الكبرى المليونية.
والطائف والأحساء تلقيان اهتماماً حكومياً لرفع مستوى الخدمات بحكم استمرار النمو السكاني، وتشهدان التوسع في المشاريع الاستثمارية للقطاع الخاص. الطائف لديها إمكانات ومصادر للتوسع العمراني تتيح لها الاستفادة من المشاريع الكبرى القريبة منها في مكة وجدة. كذلك الأحساء تتطلع للاستفادة من موقعها وثراء تجربتها التجارية وتوسع المشاريع الكبرى لشركة أرامكو. لذا، فالمحافظتان تحتاجان الجهاز الذي ينسق السياسات والخدمات الحكومية، ويُعدهما لتحديات التنمية المستدامة بما يتماشى مع الخطط والسياسيات الوطنية التي تحكم النمو العمراني.
إيجاد (هيئة عليا)، كجهاز اعتباري مستقل ومُمَكّن بالصلاحيات والآليات والإمكانات المادية والبشرية خطوة عملية وضرورية لتنمية وتطوير الإدارة المحلية لمدننا. هذا الجهاز سوف يخدم المدن إذا أعطي الأولوية لـ(إدارة المشاريع). هذا الجانب تحتاجه مدننا لعدة اعتبارات. أولها تقليل مخاطر وإشكالية ضعف إدارة وتنسيق تقديم الخدمات الأساسية. هذه المشكلة سببها تشتت الولاية على تقديم الخدمات في المدن. فالأمانات نطاق عملها محدود، ودورها محصور في التنسيق لتقديم الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي والاتصالات والإسكان، وغيرها.
وهذا مخالف لنموذج العمل في أغلب مدن العالم، فالبلدية تقدم كافة الخدمات مع تطور الأحياء وتجهزها بمتطلبات البنية الأساسية للخدمات. وهذا الذي يجعل أغلب مدن العالم لا ترى فيها تعدد واستمرار الحفر للخدمات. الآن كم عدد الجهات التي تحفر شوارعنا، 8 أو 9 أو ربما أكثر!!
لذا، يبقى موضوع تنسيق الخدمات ذا أولوية قصوى لعمل الهيئات، فالحفر والدفن المستمر والذي يستمر لجيل كامل، أمر يهدر مواردنا المالية، ومقلق ومزعج للسكان، وهو الذي ينشر الحُفر والمطبات في شوارعنا، وكلنا نعي ونعرف حجم الضرر الذي يتركه هذا على صيانة المركبات، فالناس تتحمل تكلفة مستدامة مرهقة بسبب الحفريات المستمرة لأحيائنا السكنية.
معالجة هذا المصدر لإهدار الموارد يتم عبر التنسيق الفعال لتقديم الخدمات. فهذا ضروري لأنه يخدم حاجة المدن للاستدامة المالية حتى تستمر في تقديم الخدمات. مدننا عانت منذ سنوات بعيدة من مشكلة عدم استقرار الموارد المالية، فقد ظلت الحكومة تتولى تقديم الخدمات المجانية في كل احتياجات المدن الأساسية. وهذه الخدمات جودتها واستمرارها يرتبط بحالية الأمور المالية للدولة.
طبعاً هذا الوضع لا يلبي رغبتنا الصادقة وتطلعاتنا للتحول إلى (المدن الإنسانية)، أي المدن ذات البيئة الحضرية التي تراعي حقوق الإنسان، وتكون صديقة لكبار السن وللأطفال ولأصحاب الاحتياجات الخاصة، وللأشخاص ذوي الإعاقة، أي المدن التي تستقطب الأنشطة الإنسانية وتتيح الأرصفة والممرات الآمنة للمشاة، وتراعي متطلبات السلامة المرورية في التخطيط والتصميم القائم على الاعتبارات العلمية لهندسة المرور والنقل.
التحول إلى المدن الإنسانية أجزم أن تكلفته المالية لن تكون كبيرة ومرهقة للمالية العامة إذا توفرت الآليات الذكية التي تتيح التعاضد والمشاركة في تحمل أعباء التحول للمدن الإنسانية. وهذه يحققها وجود الجهاز المركزي القوي الذي يعالج تنازع الصلاحيات، ويعالج نقص الخبرة الفنية والإدارية لدى الأجهزة الحكومية، ويطور الأفكار الجديدة المبدعة لتنمية مهارات الإدارة المحلية، ويحرص على تفعيل آليات عمل مؤسسات وجمعيات القطاع الأهلي والخيري، ويرفد الإدارة المحلية بالتجارب الناجحة عالمياً لإدارة المدن، بالذات التجارب الناجحة في إدارة النفايات، وتنمية الموارد المالية، وإدارة المرور والنقل.
في جانب المرور، الهيئات العليا أداة فعالة لتطوير إدارة الطريق في مدننا، فهذا يتطلب جهوداً منسقة للقطاعات الحكومية. في مدننا الكبرى طرق إدارة المرور لم تتغير منذ عدة عقود، بالذات في أوقات الذروة. أغلب مدن العالم لديها خططها المعدة لتوجيه حركة المرور، إذ يتم إغلاق شوارع، وتحويل طرق سريعة إلى اتجاه واحد، ومنع الوقوف في أماكن معينة، ووضع عدد محدد للركاب في المركبة، وغيرها من الإجراءات الضرورية لإنسيابية الحركة. هذه لا تعرفها مدننا! وهذا هو الذي يجعلنا لا نلمس أثر التوسع في إنشاء الأنفاق والجسور المكلفة مالياً، فلدينا هدر لطاقة الطرق بسبب ضعف الإدارة المرورية. الهيئة العليا للمدينة تستطيع قيادة وإنفاذ هذا الوضع.
لماذا نفرح بأية خطوة لتطوير الإدارة المحلية لمدننا؟
هذا يعود لأن أغلب الناس تعظم رضاها الوطني من خلال جودة الخدمات القريبة منها، والمرتبطة في حياتها اليومية من الباب إلى الباب، فمنذ خروجها من بيوتها وحتى عودتها هي في تماس مع المدينة التي تعيش فيها، فهي المسرح المفتوح الذي ترى فيه المشاهد المفرحة والمؤلمة. ترى مختلف الظروف والأوضاع المحققة لجودة الحياة، والأهم: ترى تطبيقات العدالة في الطريق وفي الفضاء العام. رضى الناس عن بلادها مؤشراته العديدة تحققه جودة الحياة في المدن، فالرضى الوطني تحققه أمور قد نراها بسيطة، مثل جودة الأرصفة وتوفرها للمشاة، أو من الحدائق والمساحات الخضراء ومن التلوث البصري مثل مخلفات البناء. الذين يسيحون في بلاد الله، ماذا يشدهم ويبهجهم؟