تعد الرواية الجنس السردي الذي يُعنى بالحديث عن المجتمع، والتعبير عن همومه وآلامه، وتطلعاته؛ فالرواية بهذا البعد الإنساني جزء من تشكّل التكوين البشري؛ لأنها تتحدث عمّا يعجز أي جنس أدبي آخر التعبير عنه، فهي تنقل التطلعات، والتجارب، وتحمل الصراعات، والاختلافات، وتصف شكل الحياة.
وتتأزم الرواية من زاوية أساسية في بنائها وهي اتصالها الوثيق بالمرجعية الاجتماعية، وهذه المرجعية أسهمت في تأسيس خطاب الرواية، كما أسهمت في تطوّره، وتنوّعه، تبعًا لتطوّر المجتمع سواء على المستوى الاجتماعي في بناء علاقات متعددة، واختلاف امتزاج بعض العلاقات، مثل: علاقة الرجل بالمرأة، أو علاقة الأب بالابن... أو على المستوى الاقتصادي في حديث الرواية عن الصراع الطبقي، أو على المستوى الثقافي من خلال الحديث عن العادات والتقاليد بوصفها نسقًا يسهم في بناء خطاب تتميّز به رواية عن أخرى.
ومن هذا المنطلق المبني على اتصال الرواية بالمرجعية الاجتماعية، واعتبارها نافذة للحديث عن الأنساق الاجتماعية، كان تعدد شكل حضورها كبيرًا؛ بل إنه يصل في أحايين إلى التناقض وليس الاختلاف فقط، وهذا ما تؤسِّسه طبيعة تشكّل الرواية ابتداءً، ومن ثَم ما يتصل بالمجتمع من التحوّلات والتغيرات التي تجعل الرواية شكلًا متطورًا لا يقف عند حدٍّ معيّن.
وحين انطلقت الرواية في سماء التعبير عن الحياة البشرية، أصبحت أكثر حاجة للاتصال بكل ما يهتم به الإنسان، لا سيما على مستوى الأجناس الأدبية الأخرى، مثل: الشعر والقصة والمسرحية، بوصفها أجناسًا أدبية مألوفة، فأخذت الرواية من حيث اتصالها بالأجناس الأخرى حياة جديدة، وقالبًا جديدًا للتعبير، ولكنها هنا لا تعبر عن المرجعية الاجتماعية فقط، بل تعبر بشكل رئيس عن الأزمة التي يعانيها الإنسان، فأصبحت الرواية -من حيث كونها تعبيرًا- شكلًا من أشكال البحث عن حلول للأزمة التي يعيشها الإنسان يوميًّا، كما يقول (بوتور) عن يوميات(بلزاك).
فأخذت الرواية من هذا المنطلق التمدد في المجتمع، وزيادة الإقبال عليها؛ لأنها تتحدث عمّا يتصل بالناس، وما يعنيهم، وتسعى إلى نقل الأزمات التي يشعر المتلقي أنها أزمته، فأصبحت الرواية أكثر الأجناس الأدبية حضورًا في المشهد الأدبي؛ وهذا الحضور أسهم في تنوّع التجارب الروائية، ومرور الرواية بمنعطفات جعلتها تتجدد في حكايتها وخطابها، وأصبح انفتاح الرواية على كل مناحي الحياة ضرورة تحتمها بنية الرواية، وانفتاحها على الفنون والأجناس الأدبية الأخرى ضرورة يحتمها خطابها.
فواكبت الرواية إقبال المتلقين على قراءة الرواية بوفرة النتاج الروائي، وزيادته، وحين الوقوف على المشهد الروائي في المملكة، نجد أن الراوية أبرز الأجناس الأدبية رواجًا؛ وأنها جنس أدبي لا يتصل بفئة معيّنة، فالمتلقي سيجد شيئًا منه في إحدى الروايات، شيئًا يشبه همومه، ومعاناته؛ لذا كان النتاج الروائي كبيرًا جدًا في السنوات الأخيرة، وهذه الوفرة وقف أمامها النقاد بشكل كبير للحديث عن أسبابها، وميزاتها، ولكن السؤال ما أثر تلك الوفرة على جودة الرواية؟
تُعرف جودة العمل الروائي باتباع أسس بناء الرواية، من حيث إبداعية التعامل مع عناصر البناء، ورشاقة تناول الخطاب، ولكن ظهر ما يجعل الرواية أكثر جودة وهو شعرية الرواية، والتي تعني جمالية لغة السرد، من حيث انتقال لغة الشعر القائمة على الانزياحات، والتنوّع، والتنغيم إلى الرواية التي هي في أساس تكوينها الأجناسي نثر، فأصبحت شعرية الرواية من أبرز مقاييس القراءة النقدية، ولا أقول الحكم النقدي؛ لأن النقد الحديث تجاوز الأحكام إلى الانفتاح على تعدد القراءات والتأويل.
فأصبح قلق النقاد يتجه إلى ما مدى أثر وفرة النتاج الروائي على شعرية بناء الرواية، وهل هذه الوفرة ستكون طريقًا إلى إضعاف جودة الرواية؟ كل هذه الأسئلة مُشرعة ومفتوحة أمام الرواية، وهي في طبيعتها مساءلة للروائيين أكثر من كونها سؤالًا عن الرواية.
ويمكن القول إن تتابع النتاج الروائي في ظاهره قد يؤكّد فكرة ضعف الشعرية إذا أخذنا منطلق الكثرة دون النظر إلى الجودة، ولكن المتأمل في النتاج الروائي العربي يجد أن الاتجاه إلى تجويد الرواية لا سيما في بناء شعريتها أمرٌ ظاهرٌ وبارزٌ، فكثير من الأعمال الروائية - خاصة المتصلة بالحديث عن الإيديولوجيا - تهتم بالشعرية؛ لأنها تستطيع أن تطرح الأفكار والصراعات بشكل أكثر تأثيرًا في المتلقي، فعلى مستوى وفرة نتاج الفرد، نجد روايات غازي القصيبي-رحمه الله- لم تضعف الشعرية فيها، رغم كثرتها لأنها تتطوّر بأفكارها، فرواية(شقة الحرية) التي تتحدث عن الصراع الاجتماعي، والحضاري، ليست مثل رواية(7) وإن كانت تتحدث عن الخطاب ذاته؛ لأن رواية(7) تبرز فيها الشعرية بشكل لافت، وغازي اهتم بهذا حين جعل أحد أبطال الرواية شاعرًا، فملامح الشعرية في الرواية منذ عتبة العنوان إلى الرسالة الأخيرة في الرواية.
فلم تؤثر وفرة النتاج على بناء الشعرية؛ لأن الشعرية تتبع الأفكار التي هي أساس بناء الرواية وليس العكس، ويظهر هذا في كثير من الروايات التي كتبها شخص واحد، مثل: تركي الحمد، ويوسف المحيميد، وليلى الجهني، وعبده خال، وأميمة الخميس، ومحمد علوان وغيرهم، وحين النظر إلى زاوية وفرة النتاج الروائي بشكل عام فيظهر تذبذب حضور الشعرية في الرواية؛ والأمر -في ظني- مرتبط بفكرة الرواية أولًا ومن ثم بالروائي ثانيًا، فالفكرة الإبداعية الجديدة تكون فيها الشعرية عالية، كما في رواية(دوائر) لأحمد الحقيل، أو رواية(البوصلة) لنورة الغامدي، لأن الفكرة الفنتازية تجلب لغة مغايرة لما هو معتاد، ولن يجد الروائي لغة أكثر تأثيرًا في المتلقي من تلك اللغة الشعرية.
فالشعرية أسهمت في حضور جميل للرواية، كما أسهمت في تطوّر بنائها، وإضفاء صورة جديدة لها، صورة فيها من روح العالم الجديد المبني على التلاقي والتكامل، والتعاضد لخدمة الإنسان، والتعبير عنه والتعبير له، ومحاولة القفز به نحو التعدد والتنوّع في كل شيء، وهو ما يشير إلى دخول شعرية الرواية مرحلة جديدة من تحولات الرواية بدخول العناصر السمعية إليها بوصفها لغة شعرية تعبّر عن أزمة الإنسان، كما في روايات ما بعد الحداثة التي تنطلق في كثير من تفاصيلها ممَّا لدى المتلقي من مخزون حول المقاطع الموسيقية، أو الجُمل الغنائية السيّارة في العالم، سواء كانت عربية أو غير عربية، وهو ما يجعل الشعرية شيئًا لا تؤثر في جودته وفرة النتاج الروائي ما دامت فكرة الرواية جيدة.
وربما كان القلق من ضعف شعرية الرواية مرتبطًا بالكتابات التي تتخذ شكل الرواية، وهي أبعد ما تكون عنها، تلك المحاولات الضعيفة التي لم تستطع التخلص من الحديث عن فكرة التقابل بين الذكر والأنثى، أو التعبير عن اليوميات بشكل سردي يشبه الرواية؛ وهذه الصور من التعبير لا تتصل بالعمل الروائي القائم على الفكرة الإبداعية، واللغة الشعرية الجيدة، وهو ما يجعل إطلاق الأحكام العامة على ضعف شعرية الرواية بسبب وفرة النتاج حكمًا غير دقيق؛ لأن كثيرًا من الأعمال التي دخلت ضمن هذا الحكم ليس لها من الرواية إلا اسمها.
** **
- د. سلطان بن محمد الخرعان