يلحظ المتابع للمشهد الثقافي العربي غزارة الإنتاج الروائي في السنوات العشر الماضية، حتى إننا أصبحنا عاجزين عن متابعة كل ما يصدر من روايات في عالمنا العربي، وأصبح النقاد المهتمون بهذا الشأن غير قادرين على ملاحقة هذا الإنتاج المتتابع.
ومن الطبعي في أي بيئة -سواء في بيئتنا العربية أم في البيئات الغربية- أن النتاج الغزير لن يكون كله في مستوًى عالٍ؛ فالتفاوت في الإبداع عامة، لا يمكن أن يختلف عليه اثنان؛ إذ إن الموهبة، والاستعداد الفطري، والتكوين العلمي والثقافي، من العوامل المهمة التي تميز كاتبًا على آخر. أقصد هنا الكتاب الحقيقيين الذين يمثِّلون هذا الفن، بعيدًا عن أصحاب الجرأة المذمومة من الهواة المقبلين على الكتابة الروائية دون تجربة تقودهم إلى مواكبة التحولات المجتمعية التي يعيشها العالم المعاصر، أو موهبة تعينهم على السيطرة على الفكرة المتناولة بأدوات المبدع القادر على منحها عمقًا فنيًّا، يدهش المتلقي؛ فأغلب كتابات هؤلاء، لا تعدو أن تكون من الخواطر والذكريات المصوغة في قالب سردي، يفتقد للشروط الفنية التي يجب أن تتوافر لإنجاز عمل روائي جيد.
يبدو لي أن وفرة الإنتاج الروائي الذي يكتبه حديثو التجربة من الكتاب والكاتبات ذو أثر في حكمنا على المنتوجات الروائية العربية، فنحن يمكن أن نحكم بازدهارها كمًّا، لكننا نتريث حين نزمع الحكم على كيفيتها، فالتأني في الحكم بالجودة على كثير من هذه الأعمال التي ملأت رفوف المكتبات، وراجت في كثير من معارض الكتاب له أسباب، لعل من أهمها أن المتأمل في هذه الأعمال الروائية يجد أن المستوى الفني ليس السبب في ذلك الرواج؛ فقد يكون هناك أسباب أخرى كجرأة الكاتب أو الكاتبة في تجاوز الخطوط الحمراء، أو شهرة الكاتب أو الكاتبة في مجال آخر غير العمل الروائي، أو غير ذلك؛ فقد بتنا نرى أعمالًا روائية لبعض الشعراء، والصحفيين، والأطباء، والأساتذة الأكاديميين الذين لا يتمتعون بمواهب إبداعية، ترقى بهم إلى كتابة روايات جيدة. وقد يكون الواحد منهم بارزًا في مجاله، ولكنه يرى أن كتابة رواية؛ تجعله داخل الأضواء في كل حين، حتى إن بعضهم يُسِيْءُ لتاريخه دون أن يعلم؛ فالنقاد المنصفون إن تناولوا أعماله سيصنفونها ضمن الأعمال الرديئة أو المتوسطة، وقد يوسم بالجهل في هذا الفن.
ورواج مثل هذه الأعمال الروائية لا يدوم؛ لأن أسبابه ليست فنية، فأغلبهم لديهم القدرة على نشر أعمالهم وتسويقها إعلاميًّا. ولاشك في أن النشر الشبكي (الإلكتروني) في وسائله المختلفة ذو أثر في انتشار كثير من الأعمال الروائية العربية التي لم تبلغ النضج الفني الذي نتطلع إليه، كما أن غياب النقد عن مثل هذه الأعمال عامل مهم من عوامل ازديادها، بل إن من أسباب الشغف بالكتابة من حديثي التجربة أو قليلي الموهبة ما يجدونه من إقبال القراء الذين لا يجيدون القراءة الفنية للأعمال الروائية، حتى إن المرء ليعجب من تزاحم الشباب في معارض الكتاب التي تقام في كثير من البلاد العربية على منصات التوقيع، وحين تنظر في الرواية التي تزاحم الذكور والإناث على اقتنائها، لا تجد فيها عمقًا أو بنية سردية جيدة، ولكنك قد تجد فكرة وفق الكاتب أو الكاتبة في التقاطها، أو تناولًا جريئًا لهذه الفكرة غير مسبوق، وقد يكون لشهرة الكاتب أو الكاتبة في وسائل التواصل والرغبة في الحصول على توقيعه الأثر الكبير في هذا الحرص على اقتناء عمله.
والحقيقة أننا قد نجد طبيبًا يكتب رواية جيدة، وقد نجد أستاذًا جامعيًّا، أو مهندسًا، أو سياسيًّا، أو غير ذلك، ولكننا في الأحوال كلها سنجد أن من أهم العوامل في تفوق هذا الكاتب أو ذاك مخزونه الثقافي، وثراء تجربته، واستعداده الفطري، وموهبته، وليس تخصصه؛ والدلائل على ذلك كثيرة، ومن يجيل الطرف في الأسماء البارزة في مشهدنا العربي، يجد حقيقة ذلك.
وقد يستطيع الكاتب أن يضع نفسه في مصاف الروائيين الكبار في عمل واحد أو عملين حين تتوافر له مناخات ملهمة، تعينه على الإحساس بما يعانيه الإنسان المعاصر، وتدفعه إلى رصد التحولات -في بناء متكامل، قد يتداخل فيه الواقع بالخيال- بلغة إبداعية راقية، بل إن الكاتب الجيد قد يتناول حدثًا واقعيًّا، فيوظفه في إبراز قضية من القضايا المهمة، فيكون هذا العمل سبباً لبروز الكاتب ورواج عمله، على أننا نجد روايات كثيرة، تناولت أحداثًا واقعية، كل ما عمله كتابها أنهم استنسخوا تلك الأحداث بصورة واهنة.
من أجل ذلك نستطيع القول: إن الإقبال على كتابة الرواية بالصورة المشار إليها غمر المشهد الثقافي العربي بروايات فقدت قيمتها الفنية حين غابت عنها الفكرة العميقة والبنية السردية المحكمة.
ولاشك في أنه قد يظهر من هذه الأجيال الشابة من يبدع في الكتابة ويخرج عملاً متميزًا؛ لأن هذه الكثرة في الإنتاج الروائي قد تزيد من احتمال ظهور أعمال جيدة، ولكنها نسبة قليلة إذا ما نظرنا إلى القسم الآخر المفتقد لبعض الشروط الفنية التي يجب أن تتوافر في العمل الروائي.
** **
- د. محمد بن سليمان القسومي