عندما تقرأ بعض الروايات تستمتع بعذوبة اللغة وصدق العاطفة وتماسك النص الدلالي والأسلوبي عن وعي أو عن غير وعي منك، بينما الباحث النقدي أو الدارس الأدبي سيفهم أسباب القرب العاطفي والذهني عند المتلقي لنص ما دونًا عن غيره، فهو يقبض عادة على تلابيب الجمال المضمرة هنا وهناك، ويمكن أن يُعلِلَ للعدول اللغوي الذي يُحقق الكاتب به أهدافًا أكثر أهمية، مثل: تبرير مواقف الشخصيات، أو تصاعد الحكاية في السرد.
ومثلما يحس المتلقي ذلك الشعور تجاه بعض الأعمال الأدبية التي يقرؤها، كذلك الناقد تتملك فكره وذاكرته بعض الدراسات النقدية التي نشرها؛ بسبب وصوله إلى نتائج مبهرة، لم يكن ـ أحيانًا ـ يتوقع الوصول إليها، فزادتْ من دهشته، وإعجابه بالنص الأدبي المدروس.
وعادة ما يختار الناقدُ النصَ المدروسَ بناء على التماسك النصي الذي يستحق معه الأدب الدراسة، وهو معادلة طويلة تحتوي على: تناغم اللغة، وتناغم الأحداث، وواقعية تنامي الحبكة في القصة، وتناغم الصفات عند الشخصيات إن وُجِدتْ، وإن بدتْ لأول وهلة متناقضة في مواقفها.
ومن هذه الروايات التي درستُها في أبحاثي الأدبية، وعلِقتْ في ذهني ـ إلى الآن ـ روايتان، وهما: الفردوس اليباب؛ لليلى الجهني، وسقف الكفاية؛ لمحمد حسن علوان، فالمتعة البحثيّة ـ إنْ جاز لي التعبيرـ كانت تتنامى في داخلي، وأنا أُلقي عليهما بمشرط التحليل والنقد، عبر توظيف مفاهيم ومصطلحات نقدية حديثة، مثل: آلية التناص، والشعرية، وتقنية الميتا سرد، وفن المفارقة، وغير ذلك.
لعل السر في نجاح الروايتين جماهيريًا ـ حسبما قرأتُ في مواقع كثيرة تورد عدد الطبعات وحجم الشراء لهما ـ ليس في اللغة الشعرية التي تتمتعان به، وليس في العلاقة الغرامية المتنامية في القصتين بين البطل والبطلة، بل في سبب جوهري، قد يغفل عنه كثير من النقاد ـ مع الأسف ـ على الرغم من أهميته؛ بسبب تخفيه الشديد عن الأنظار، وهو صدق الشعور، فهناك قدرٌ من الدفق العاطفي الشفيف الذي يصل وهجه إلى المتلقي من دون أيّ حواجز، فتكرار الصور المؤلمة، والتداعي الحر في الأفكار المتواترة الحزينة، وتوظيف التناص في مواقف متناغمة مع مواقف الأبطال بكل مهارة، ورسم صور الشخصيات بطريقة تكون قريبة من الفهم والقلب معًا، وربط السياقات المختلفة بعضها مع بعض، كل ذلك أتى عفويًا دالاً على التعبير عن الحياة الواقعية شديدة التناقض التي قد جرّبها جميع الناس، فوقعت وطأتها على القلوب المرهفة.
فأنت إن أطلقتَ العنان لروحك ستبكي في مشاهد الفراق بين الحبيبين، وفشلِ أحدهما في نسيان المحبوب، وستصيبك الفرحة بضحكاتها غير المتناهية عند النهاية السعيدة غير المتوقعة، وستؤمن بأحبابك المحيطين بك أكثر في مواقف تمسك البطل بالبطلة على الرغم من جرح التخلي من جانبها، وستسخر من مفارقات الأحداث الطبيعية، وستلعن البطل الذي خان حبيبته مع صديقتها، وعبث بعفافها قبل ذلك!
إن هاتين الروايتين يحققان بشكل مستمر قراءات جديدة في مواقع التواصل الاجتماعي من جانب الناس، فأنت تقرأ تعليقاتٍ مستمرةً عليهما، واقتباسات منهما على لسان الجمهور من جانب، ويلهمان النقاد في الدراسة الأدبية من جانب آخر.
لذا تضع الدراسات الأدبية أهمية للانطباعية أو التأثرية في النقد أيضًا، فالناقد الماهر لا يمكن أن يدلف إلى دراسة نص سردي أو شعري من دون أن يحسَ به إحساسًا كبيرًا، ويلقى لهذا الشعور أثرًا وتعلقًا في نفسه.
ويبقى السؤال المحيّر: هل يلزم أن تكون المعاناةُ التي يعبرُ عنها الأديبُ في روايتِه معاناة حقيقية، عاشها في واقع حياته؟ أم يمكن أن يتقمصَ الساردُ الشخصيات، فيستقيَ منها الخواطر والملاحظات المرتبطتين بالحياة عبر حساسيته المفرطة بكل شيء، أو يضيف إليهما من نسيج خياله المتدفق، وهو خيال من الممكن تصور وجوده في الواقع أيضًا؟ وهذا السؤال يتردد في الأبحاث الأدبية مليًا، مثل بحث الدكتور: جهاد المجالي، الموسوم بـ «التجربة الشعرية بين الصدق الفني وصدق الواقع».
ومن هنا ربط بعض النقاد بين صدق العاطفة والسيرة الذاتية، فسطعتْ عندهم فلسفةٌ نقدية تؤكد أن مثل هذه الأعمال الصادقة والمؤثرة في الناس هي على ما يبدو لهم «رواية سير ذاتية»، وليست رواية من صنع الخيال فقط، ومن هؤلاء النقاد العرب الذين يؤمنون بهذه الفكرة النقدية: معجب العدواني، وحسين المناصرة.
ويبقى الجواب الأكيد عن نوع الرواية أو مدى مشابهتها لحياة كاتبها يملكهما الكاتب وحده، وليس الناقد، مهما كانت محاولات الأخير جادة ومثمرة وقوية، أو تبدو صائبة لهتك السر، أو الوصول إلى لباب الحقيقة بكل الوسائل النقدية المشروعة له.
جملة نقدية لا تنام
يقول يحيى حقي عن رواية قنديل أم هاشم: «خرجت من قلبي كرصاصة، فاستقرتْ في قلوب الناس».
** **
- د. هدى عبد العزيز الخلف