أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
المأمول دائمًا أن لا تكون الطفرة السردية طفرة عدد، بل طفرة نوع
تجاربنا الروائيَّة في المملكة بصفة عامَّة ما تزال كما يبدو محض فورات متقطَّعة ليس ثمَّة رصيد كافٍ ولا استمراريَّة تصاعديَّة!
منذ فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل أنَّ الكُتَّاب والصحفيين والشعراء والدُّعاة الدينيِّين والسياسيِّين- قاطبة تقريبًا- صاروا بين عشيَّة وضحاها روائيِّين أو روادهم هوس الرواية.
لعلِّي أنظر إلى وفرة النتاج الروائي بإيجابيَّة، مهما كان مستواه. وإنْ كان المأمول دائمًا أن لا تكون الطفرة السردية طفرة عدد، بل طفرة نوع. وحتمًا سيكون الناقد معها إنْ كانت تمثِّل حراكًا نوعيًّا. فالسعوديَّة منذ عقود تشهد تحوُّلات اجتماعيَّة وثقافيَّة، وتعدُّدًا في الرؤى والأفكار والتوجُّهات، تمخَّضت عن الانتقال من طور المجتمع القَبَليِّ والمحلِّي الساكن بعاداته ومألوف تقاليده إلى المجتمع المتفاعل داخليًّا وخارجيًّا. فشتَّان بين الحقبة التي نُشر فيها نصُّ «التوأمان»، لعبدالقدوس الأنصاري، وعُدَّ إذ ذاك رواية، أو تلك التي نُشر فيها نصُّ «ثمن التضحية» لحامد دمنهوي، وعُدَّ فتحًا مبينًا في هذا الجنس الأدبي الوليد في المملكة، وبين ما تشهده المملكة اليوم. في مثل هذا الجوِّ الراهن لا بُدَّ أن تزدهر الرواية، وأن تُؤتي أُكلها، ولو بعد حين. على أن التطوُّر النوعي المنشود مرهونٌ بمزيد من النضج الاجتماعي والأدبي.
? في تقديري أن وجود الرواية، من حيث هو، ليس إلَّا نتاج حراكٍ ثقافي. فالعمليَّة جدليَّة بين الواقع الثقافيِّ والواقع الأدبي. ولولا الحراك الثقافي لما نشأ النصُّ، ولما تلقَّاه القرَّاء بتفاعل، ولما حظي بسوق. وطبيعي أن يصبح النتاج الأدبي مع الزمن عامل جذب واستقطاب للقراء،مسهمًا في تطوير الذائقة، ورسم آليَّات جديدة للتلقِّي. على أن اتِّكاء كاتبٍ ما على إثارة الزوابع الاجتماعيَّة ليس ما يضمن للنصِّ جودته الأدبيَّة.
ولمقاربة هذه القضيَّة ينبغي عدم فصل الرواية في السعوديَّة عن إطارها العربي. غير أن ظاهرة الرواية في المملكة، بعد عام 2000م،فاضت عن عاملين: الأول يتعلَّق بمارد تحرَّرَ بعض الشيء من قمقم كبتٍ طويل، فكان تخبُّطه، شغفًا بالحريَّة، صاخبًا. والثاني يتعلَّق بمارد سرديٍّ، ظلَّ محاصَرًا بالشِّعر والشِّعريَّة، وهو مندفع ليحظى بمقعده الروائي، ولو بأيِّ ثمن. ولقد أسال العاملان- مع ما واكبهما من ضخٍّ إعلاميٍّ، فَتَحَ باب الشهرة لكلِّ مَن كتبَ فسَرَد- لُعاب أقلامٍ شتَّى، بعضها ليس لها رصيد، لا معرفي ولا فنِّي، في مجال الرواية، وربما لا حظَّ لها في مجال الأدب أصلًا. وهكذا نُشِرت روايات لا روايات فيها، ولا هدف لبعضها- إلى جانب هدف الشهرة، وشرف المنع من الرقابة، ونعت الجرأة والتمرُّد- إلَّا تملُّق الآخَر؛ لسان حالها: ها نحن هؤلاء لا نقلُّ عنكم! وهذا هو معيار الحريَّة ومعيار التحضُّر كما يفهمهما بعضنا غالبًا! أو ربما كانت الرسالة على نحو آخر، قائلة: ها هي ثقافتنا العربيَّة والإسلاميَّة ثقافة نفاق، ظاهرها طهوري، وباطنها بنقيض ذلك. ولهذه الحالة تاريخ عريق، وسَلَفٌ صالح من أدباء التراث وفقهائه ومؤلِّفيه. فلعلَّنا نستطيع أن نغزو الآخَر مجدَّدًا، كما غزوناه مُقَدَّمًا عَبر عابرة القارات «ألف ليلة وليلة»، بجواريها، وسيِّداتها، وغلمانها، وعبيدها!
? ولقد أسهمتُ بالدراسة النقديَّة لأعمال عدد من الروائيين السعوديين والروائيات، كأحمد أبي دهمان، ومحمَّد حسن علوان، وعلي الدميني، وزينب حفني، وغيرهم. فوجدت نتاجًا نوعيًّا حريًّا بالاحتفاء والدراسة. وخرجتُ بأطروحات كانت محلَّ جدل، من قبيل «القصيدة - الرواية»،حيث سجَّلت أن كثيرًا من نتاجنا الروائي في السعوديَّة هو وريث الشِّعريَّة الموغلة في عراقتها في الجزيرة العربية، بوصف الشِّعر فنَّها الأحبَّ والأوَّل، ومن ثمَّ فقد لحظتُ امِّحاء هويَّة بعض تلك الأعمال الروائيَّة في شِعريَّتها؛ ما يسوِّغ أن يُتَّخذَ لها مصطلح جنسيٌّ جديد، يلائم طبيعتها، هو: «القصيدة-الرواية». غير أن تجاربنا الروائيَّة في المملكة بصفة عامَّة ما تزال، كما يبدو، محض فورات متقطَّعة. ليس ثمَّة رصيد كافٍ، ولا استمراريَّة تصاعديَّة! هي تجارب من الصعوبة بمكان الحكم عليها كسِجلٍّ روائيٍّ له تاريخه، لا على مستوى الروائيين أفرادًا، ولا على مستوى السياق العام. تجارب تُخفِق تارة وتوفَّق أخرى، ولدى الكاتب نفسه أحيانًا. على أن ما بدا طريفًا ومزعجًا، منذ بداية هذا القرن، بل قل منذ فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، أنَّ الكُتَّاب والصحفيين والشعراء والدُّعاة الدينيِّين والسياسيِّين- قاطبة تقريبًا- صاروا بين عشيَّة وضحاها روائيِّين، أو روادهم هوس الرواية، وتقمَّصتهم شيطنة السَّرد. ويُلحَظ وراء هذا عاملان رئيسان: هواجس اجتماعيَّة، تجعل بعضهم يُقحِم نفسه في هذا الميدان دون موهبة في كثير من الحالات، بهدف تسويق أفكارٍ معيَّنة. والعامل الآخر: البحث عن بُقَع ضوء فيخضمِّ التنافس الإعلاميِّ المحموم. ويظلُّ السَّرد مضمارًا واسعًا، لكلٍّ أن يدلي بدلوه فيه، فما من أحدٍ إلَّا وله حكاية ما، وما من إنسان إلَّا ويجد ما يرويه في وقتٍ من الأوقات. لكن ما سيبقى من ذلك كلِّه ليس إلا تلك الأعمال التي تتمخَّض عن أصالة موهبة، وتتبلور عن حِسٍّ أدبيٍّ حقيقي، وتتأتَّى من خلال تمكُّنٍ في الأدوات اللغويَّة والفنِّيـَّة. إنَّ الرواية، في البداية والنهاية، عمل أدبي، ذو أصول، وليست بمطيَّة أفكار، مسرجة لكل من حمل قلمًا ودارت في رأسه فكرة!
? وكثيرًا ما تثار الأسئلة هنا حول دُور النشر ودَورها في التشجيع على بعض الكتابات الخداج. فالحق أن النشر في معظمه تجارة؛ ولذلك كثيرًا ما تتحدَّد النصوص والأسماء بحسب مؤشِّرات البيع والشراء.. ليصبح الكاتب مجرَّد وسيلة بيعٍ وتسويقٍ وكسب مال، بحسب جنسه (أيجنس الكاتب)، وجنس ما يكتب، واهتمام عامَّة المتلقِّين بهذين الجنسين؟! وما الرواية ببدع في «بورصة» النشر السائدة؛ حتى لقد وصل الأمر أحيانًا إلى نشر روايات لا لشيء سوى لتردَّ على روايات صدرت عن تيَّارٍ معاكس!
وختامًا، ستهدأ العاصفة، وتستوي سفينة نوح على جوديِّ الجادِّ من الرواية والجيِّد، وأمَّا الزَّبَد فيذهب جُفاءً، كالعادة.
** **
- الأستاذ بجامعة الملك سعود