د. شاهر النهاري
حكاية ذات فصول طويلة قديمة قدم تواجد البشر على وجه الأرض، ظلت تتغير مع تبدل الظروف ومرور الوقت، بين عصر وعصر، ومع كل تغير جماعي في المفهوم الخاص بالكمال والنقص، حتى يومنا هذا.
فمن هو الإنسان الأكمل في كل عصر، وما هي مواصفاته. ولا شك أن الجواب على ذلك يتلخص في كيان الرجل في البدايات، كونه أكثر قوة، وأعظم في الحجم، والتحمل وسرعة الحركة، والقدرة على الجري والتسلق، وملاحقة الطرائد، وامتلاك الأنثى كجزء من ممتلكاته في كهفه، الذي يجمع فيه نوادر مقتنياته، ويحمي فيه نساء وأطفالاً، وما يهجنه من الطيور والحيوانات، يتغذى على لحومها وألبانها وبيضها، فكان الرجل حينها الكيان الأكمل، ولا يقارن بأي مخلوق على وجه الأرض.
ثم أتى عصر الزراعة، والذي أبدعت فيه الأنثى، التي تضطر للبقاء حول كهفها، أثناء ذهاب الرجل لجمع القوت، فعرفت البذور، وتنوع النباتات، وعرفت السقاية، وقطف المحاصيل وتجفيفها، فكان أن تغلبت في بعض الصفات على الرجل، الذي كان يجد عندها الخير الكثير الدائم، متكاملاً مع ما يصطاده من البرية، ما وهب المرأة نوعًا من التميز، والخير، والبركة، حتى نصبتها بعض المجتمعات ملكة وإلهة، بما تخزنه طوال العام من حبوب وثمار، وأعشاب وزهور وعطريات ولبخات، ومعرفتها بطقوس الزراعة، والتداوي والسحر، ليكون التميز حظها.
ثم أتت مرحلة العبودية، حيث احتاج الرجل القوي، وأهل بيته لخطف بشر أقل منهم عزوة وقوة وذكاء، وتم تقييدهم، وتعنيفهم، حتى أصبحوا خير عون لهم، في تدبير أحوال الكهف والزرع، ما خلق نوعًا جديدًا من البشر، العبيد الناقصين، وممن لا يمتلكون حريتهم، ولا يعصون السيد، والسيدة، الذين يقدمون لهم الطعام، مقابل ما يصنعون وينجزون لهم، بتعنيف يزداد وقيودًا تتعاظم، لتغدو ملكية العبيد كما الحيوانات أمرًا معتادًا، حتى أن الملاك يوشمون أجساد العبيد، لكي لا يُسرَقُوا، ولكي يستعيدوهم لو هربوا، وكانت العقوبات مشددة للعبد المارق، بقطع أحد أطرافه، أو خزمه بأنواع من المعادن في الأذن والأنف وفي أماكن أخرى من الجسد، زيادة في الذل، والتعذيب، وللمحافظة على تطويعهم في سجنهم الكبير، ليصبحوا أنقص المخلوقات بانعدام حريتهم.
وبالطبع فقد كان العبيد مختلفين عن سادتهم إما بألوانهم، أو بلغاتهم، أو عاداتهم وتقاليدهم، فظلوا نوعية أدنى من البشر، قريبون جدًا من مستوى الحيوانات، في وعيهم وعملهم، وفي ملابسهم الأقل بكثير مما يستر الجسد، وفي منامهم وطعامهم، دون أي مميزات.
وبعدها تم رفع بعض العبيد على بعضهم درجات، في القيادة والمراقبة، وفي التنظيم، والتحريك أثناء ساعات العمل، وحتى في الأكل والمبيت، بنوع من التميز البسيط.
وفي مرحلة متقدمة برز الرجل والأنثى البيض، وبمقام السيد، الذي كان يؤكده شقار الشعر، وتلون العينين، أو وجود أحفاد سادة يتميزون بالعرق والمكانة، والسلالة، ما خلق طبقات جديدة من السادة الأثرياء، لم يكونوا يقارنون بمن حولهم من مجهولي الأصل، أو المهاجرين، أو الملونين، وليس فقط من سود البشرة، فظهر التمايز، وهذا ما ساعد على ديمومة العبودية، وتنوع درجات التمييز بين الملونين في مناطق الوسط.
وكان الأبيض يتأثر ويترقى بحريته وقدرته على التعلم، والتملك، والترقي، ما مكنه من أن يزداد تميزًا ويرحل بعيدًا في العلوم والمعارف، بينما ظلت الألوان الأخرى، والأسود بالذات، متخلفين عن ركب الحضارة والتقدم، لعصور مريرة من النقص.
وبعد سيادة مفاهيم حقوق الإنسان في القرون القليلة الماضية، وظهور عوار العنصرية والعبودية، وصدور أحكام تحريم وتجريم العبودية على مستويات أغلب الأمم، أصبحت هنالك عمليات ترقٍ للسود، ومحاولات متدرجة لجعلهم بدرجات البيض نفسها، وقد حدث بعض ذلك على مستوى الدول المتقدمة، ولو أن الكثير ظلوا يرفضون تلك المساواة، بتمسك البعض بكمال العرق الأبيض، وظهور ما يسمون بالنازيين، الحالمين ببقاء وعودة السيادة على كل الأعراق والألوان الغامقة والمعتقدات المختلفة.
ومؤخرًا اتجه العالم لتغيير مفاهيم الكمال والنقص، فبدأت المطالبات العالمية بضرورة خلق المساواة بين الرجل والأنثى، ليس فقط في الحقوق، بل في كل شؤون الحياة وصولاً لأن تكون المرأة رجلاً بلبسها ومظهرها ومشاعرها، وتصرفاتها، وأن تميز عنه بمجرد كونها امرأة في العمل والمناصب والحقوق.
ثم تمادت لوثة العالم الجديد، بأن يتم تمييز الأقليات، وأن يتم إعطاؤهم كامل الكمال والتميز على حساب الأغلبية، وبتميز وهمي، لمجرد أنهم أقليات.
وزاد تقدم البشرية في ذلك، فأصبحت الميول الجنسية مجالاً للمفاضلة والتمييز بشتى تنوعاتها، فوجدنا القانون العالمي يقف مع المثليين، من الجنسين، ليوهبوا من الحقوق الكمال، وتم إعطائهم حقوقًا قد لا يبلغها الإنسان المستقيم العادي، وترك لهم كامل الحرية لمزاولة ما يشتهون في العلن، فلا أحد يستطيع انتقاد ما يظهرون من حركات وتصرفات شكلية علنية غريبة على طبيعة المجتمعات، وتجريم النظر إليهم كأشخاص غريبين أو تمييزهم في العمل والحقوق والقدرة على بلوغ الكمال.
وزاد التقدم الحديث، فرأينا حقوق المتحولين جنسيًا «من يختارون تحويل جنسهم من جانب إلى الآخر»، وليصبح وجودهم والتعايش معهم شرطًا من شروط العيش المتقدم، واحترام من يريد تحويل جنسه لجنس آخر، أو وسطي، وتمكينه من إجراء العمليات الجراحية، وإكمالها بالظروف النفسية والمجتمعية، فلا يكون لأحد منعهم عن ذلك حتى ولو كان من أهلهم الأقربين، بل إنهم تصدروا مشهد الكمال، ونفوا عن أنفسهم النقص، وسهلت لهم جميع إجراءات الحياة والعمل والتقدير، وقدمت لهم المزايا والإمكانيات وحقوق العمل والقيادة، وحتى حقوقهم في مشاركة دورات المياه مع الجنسين، والاختلاط والتأثير في الأطفال، وامتلاك القدرة على بناء الأسر وتبني الأطفال.
العالم المجنون يتغير في انتقاء من يكون الكامل ومن هو ناقص، ومن يستحق أن يكون السيد، ومن يجب أن يصمت ويكون التابع، والحكايات لا تنتهي، وحقيقة لا أدري أين تذهب مرئيات البشرية، ومن سيكون عليه الدور مستقبلاً ليكون أهم فئات كمال البشر، ومن سيعاني ويصبح الناقص في مفاهيم البشرية المتبدلة؟
أنظمة وقوانين حقوق الإنسان هي العقيدة القوية الثابتة المهيمنة حاليًا على كل المعتقدات والسياسات، ويصعب التنبؤ بديمومة العمل بها، أم أن لعبة الكمال والنقص ولادة بالجديد، خصوصًا نحن نسمع عن فرص تميز وكمال من يكون جسده مختلطًا بين أعضاء الجسد البشري، وبين شرائح وبطاريات وبرامج تضم التقنيات الحديثة!