د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يطرح الحراك الروائي الذي تشهده السعودية في السنوات الأخيرة مجموعة من التساؤلات المتعلقة بمدى القدرة والجدّية التي يملكها أصحاب الإنتاج الروائي، وعن حقيقة توفر اشتراطات الكتابة الفنية في هذه الإصدارات حتى يمكن إدخالها تحت هذا الجنس الأدبي! مما يجعل المتابع لهذا الزخم الروائي الذي تدفع به دور النشر كل يوم يتساءل عن مدى سهولة عملية الإبداع الروائي! وهل زاد عدد الروائيين فجأة في بلادنا؟ أم أن هناك نوعاً من الاستسهال يشبه ما حدث عربياً على صعيد كتابة الرواية التي شهدت مؤخراً طفرة عربية، بحيث جعلت القول: (إن الرواية هي ديوان العرب) لازمةً فكريةً وثقافيةً تتردّد في المحاضرات والندوات ومعارض الكتب وغيرها من الأنشطة الثقافية!
لقد اقترحتُ في مناسبات سابقة أن يقوم أحد الباحثين الجادين بجمع الإنتاج الروائي السعودي في السنوات الأخيرة، ويدرسه دراسةً علميةً وافية، حتى يُقدِّم لنا تقييماً حقيقياً لمستواه الفني، وحجم الجودة أو الرداءة الذي وصل إليه، والأسباب التي جعلته يظهر بهذا المستوى، مع أنَّ نتائج مثل هذه الدراسات لن تكون خافيةً على القريبين والمتابعين من حركة الإنتاج الروائي المحلي!
إن النقاد يرون أن أفضل معيار لقياس جودة الرواية هو مدى التأثير الذي تتركه في المتلقي، وقدرتها على ملامسة المشترك الإنساني؛ ولذلك تنجح الروايات العالمية في إقامة صلة وثيقة مع مختلف أنواع القُراء، من أي ثقافة وبيئة وفي أي زمن، وفي كثير من الأحيان كفلت روايةٌ واحدةٌ جيدة لصاحبها الخلود، ووضعته في مصاف كبار الروائيين، وفي المقابل قد يكتب البعض (رواية) ربما لا يفهمها إلا هو، أو أنها لا تترك بعد الانتهاء منها أثراً يُعتدُّ به في نفس القارئ، وربما يرى هؤلاء (الروائيون) أن تجاربهم الخاصة غنية بما يكفي لتحبيرها على الورق وإتحاف الآخرين بها، لكن جزءاً من غنى التجربة ينبغي أن يكون القدرة على تقدير أهمية ما يرغب المرء في نشره، وإدراك المخاطر التي تنطوي عليها محاولة الدخول في مملكة الرواية صعبة المسالك.
إن المتأمل في الواقع الحقيقي لما تدفع به دور النشر من روايات -حسب ما يُطلق عليها أصحابها- سيجد أنها تفتقد لكثير من الاشتراطات الفنية التي تسمح لها بالانضمام تحت مظلة هذا الجنس الأدبي، فهي رديئة لغويا وفنيا، وليس فيها سوى أحداث مفككة، وتحولات غير منطقية، وشخصيات غير ناضجة، وحوارات لا تخدم فكرة الرواية، فضلا عن ركاكة أسلوبها، وفيضها بالأخطاء اللغوية والإملائية والنحوية.
وأظن أن من أهم الأسباب التي زادت من جرأة هؤلاء على إصدار أمثال هذه الروايات فساد الذوق عند معظم أفراد المجتمع، وانخفاض مستوى الإدراك الأدبي لديهم؛ لبعدهم عن الفصحى، وانغماسهم في عامية أضحت تحكم ألسنتهم ليل نهار، ومنها تنافس دور النشر على الكسب المادي البحت دون الالتفات -مجرد التفات- إلى جودة المنتج الروائي، وما دامت الذائقة الأدبية لدى القارئ رديئةً فإنَّ إقباله على المنتج الرديء سيكون حتمياً، خاصةً إذا أبدعتْ دور النشر في طريقة الطباعة وفخامة التغليف وجمال التجليد، ويتوّج هذه المؤامرةَ المؤلفُ حين يختار عنواناً برَّاقاً يكمل به اللعبة، ليقع المتلقي العادي في فخ هذا الإنتاج الذي لا يضيع وقته وماله فحسب، بل يزيد في فساد ذائقته، ويعطيه صورةً نمطيةً عن الإبداع الروائي المحلي بأنه على هذا المستوى أو قريبٌ منه.
أضف إلى هذا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت سلاحاً ذا حدين للإنتاج الأدبي عامة والروائي خاصة، فهي وإن أسهمتْ في تطوُّر العملية الإبداعية بشكلٍ ما فقد ساعدتْ في الوقت نفسه على انتشار إنتاجٍ في غاية السوء والرداءة، فتجد أحدهم مثلاً يشتهر بأي شيء سوى الكتابة والأدب، وحين يتهافت عليه الناس ويصفقون له، تأخذه العزَّة بـ(الإبداع)، ويرى نفسه حقيقاً بإصدار (رواية) كغيره، فيسطِّر بين الدفتين (حكايات) و(سواليف) يظنها رواية، ثم لا يرى مانعاً أن يتبعها بأخرى وثالثة، ما دامت دور النشر تفتح ذراعيها للشباب (المبدع) وبأقل التكاليف! وما دام القارئ الجيد الواعي أضحى عملةً نادرةً في زمنٍ أصبح الروائيُّ الجيد فيه أعزَّ من الكبريت الأحمر.
ولعل من الأسباب أيضاً توهم كثير من أولئك المجترئين على حرم هذا الجنس الأدبي أن الرواية تكتب بلا قيود، وأنها ليست كالشعر الذي يلتزم به المبدع وزناً وقافية، فأطلقوا العنان لأقلامهم التي شرعت تكتب قصصاً وأحداثاً وحوارات تجري في مخيلاتهم كيفما اتفق، ومن ثم صرنا نرى كتابات يدّعي أصحابها أنها رواية، وهي بعيدة كل البعد عن أدنى مقوماتها.
ثم إنَّ الشللية في ثقافتنا المحلية والمجاملات العلمية والسعي إلى تحقيق المصالح الشخصية أمور باتت تنخر في مشهدنا الثقافي، وأدَّت إلى تسهيل إنتاج مثل هذه الأعمال الرديئة وإصدارها وانتشارها، وقد قلتُ مرَّةً إنَّ من أهم الأسباب التي تجعل الناقد يتجه إلى هذا النوع من الأعمال الرديئة مجاملته لصاحبه المؤلف، وتبادل المنافع بينهما، ومردُّ هذا كله إلى انعدام الأمانة الأدبية لديه، واتخاذه من النقد وسيلة للتسلق وتحقيق المكاسب الشخصية.
إن النقاد يؤكدون دوماً على أنه يمكن للمخيلة الخصبة المبدعة أن تعثر على موضوعات روائية في الحياة الثرية حقاً مهما بدت فقيرة، غير أنَّ ولادة الروائي الحقيقي ليست شيئاً متاحاً على قارعة الطريق، وليس من المعقول أن يجرؤ كل منخرط في أوساط الثقافة على اجتياح منطقة الرواية، بمعنى كتابة نص روائي ونشره في كتاب، على اعتبار أنه مؤهل قبلياً لأن يكون روائياً، ولا عيب في أن يكون المرء باحثاً أو أكاديمياً أو كاتب مقال أو شاعراً أو كاتب قصة قصيرة أو حتى مجرد متذوق أصيل للفن والأدب. وربما ينبغي التخلص من وهم أن كل من احتك بالثقافة ينبغي أن يكون روائياً حتى يكتمل. وحبذا لو توقف المرء طويلاً قبل أن يجترئ على دق باب الرواية، لمجرد أن يضع في بيتها شيئاً لا تحتاجه ولا يفعل أكثر من الإضافة إلى اكتظاظ المشهد.
إني أدعو في هذه المناسبة إلى وضع ضوابط وشروطٍ لفسح الإنتاج الروائي، وعدم السماح لأي عمل روائي بالصدور إلا بعد تحكيمه والنظر في مستواه الإبداعي ولغته وقيمته الفنية، وفق معايير معينة؛ حرصاً على المكانة الأدبية والفكرية للرواية السعودية، وتوفيراً للأوراق والأحبار التي تهدرها دور النشر حين تصدر مثل هذه الأعمال الرديئة.