شوقية بنت محمد الأنصاري
يعد حضور الطفل في مشهد العيد ركيزة مجتمعية حتمية، نابعة من واجب ديني، لا تجد رب أسرة إلا ويجعل في مقدمة التخطيط للأعياد العناية بحضور الطفل من خلال تجهيز الملبس والألعاب والهدايا له، ومن هنا تشكلت ثنائية العيد والطفل على مر العصور، زادها المشعر الديني (الاحتفال بالعيد) وما يصاحبه من عبادات ولغة تواصلية كان لحضور الطفل برفقتها دور في رسم معالم الفرح والسعادة والسرور بكل مودة وبراءة فطرية، بدأ من المشاركة في توزيع زكاة العيد، وحضور مشهد صلاة العيد وزيارة الأقارب والمعايدة برفقة الأهل وتبادل الطيب من القول والتهاني والتباريك، وقد يصاحب التجمعات فعاليات ترفيهية ومسرحية وغيرها من المظاهر التشاركية التي تجعل الطفل في جاهزية للتعايش المتوهج بالدهشة والشغف ليصنع بصمته، بل كثيرًا ما يعيش الطفل فرحة ومظاهر العيد بين بيئتين مختلفتين المدينة والقرية، فتحيطه وتتشكل معه ملامح ثقافات وعادات متنوعة كفيلة بخلق ملامح التربية الجمالية في نفوس الأطفال والناشئة، وقد نجح الكبار في سردها قصصيًا لهم ما زالت بموروثها الشعبي على لساننا (بنات العيد ما حلاهم .... وما أحلى نقش حناهم) (اعطونا العيدية عادت عليكم)، ليبقى السؤال الأهم أين نحن من صياغة الفلسفة الجمالية بمنطق وحكمة يلائم فكر أطفال العصر؟ وجذبهم نحو التعمّق في مظاهر الفرحة، التي باتت تتجه نحو العزلة والرفاهية المبالغة بحصر مظاهر فرحتها في فستان جديد وهدية وتصوير رقمي إلكتروني؟
فمن الإسلام تشكلت ملامح الجمال بداخلنا وبعمق ديني، فجاءت عباداتنا وقيمنا معززة لحضور اللغة الإنسانية بكامل منظومتنا الحياتية المتوازنة يشكل فيها العقل والقلب والجسد مفتاح الرشد ليصل الفرد بذاته للغة إبداع من الجمال الاستثنائي، وزادها التبصر في كتاب الله -جل جلاله- فنجد الجمال يكتمل (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون). وبالفعل تُشكّل الأنعام والبهائم رموزًا واقعية يراها الأطفال في لحظات العيد لتتمحور لديهم رحلة التسخير الإلهية وتتعمق بهم الجمالية الروحانية، وعند العلاقات المباشرة يأتي الجمال ملازمًا لسلوكيات محببة يصفها الله بأوصاف بيانية عدة: ( فاصفح الصفح الجميل - فاصبر صبرًا جميلا- واهجرهم هجرًا جميلاً)، ومع العيد نحرص على تهذيب الأطفال والناشئة بها لنحد من لغة الغرور والتنمر، وتتوازن الجمالية بين مظهرهم الخارجي وسلوكهم الداخلي، لذا لا أجد أعمق من المحاكاة فلسفة حياتية (القدوة) تهب الطفل قدرًا من التقليد والانفتاح المعرفي والسلوكي لتتهذّب مع إبداعه ملامح الجمالية بطرق متنوعة تفوق الصورة الظاهرة من مظاهر العيد، قال ابن سينا: ( الجمال هو السعي وراء التأمل في سمو الخصال والسمات الروحية الخيرة من خلال التفكير والحدس)، أما نيتشه فيقول: (الجمال ينمي الحياة، وحبنا للجمال هو الإرادة المصورة التي تبدع الأشياء من جديد). هذه الملامح البصرية التي تتشكل في منظومة الطفل بصورة متوازنة كفيلة في أن تغرس بالأجيال جانب الوعي والتأمل والتبصر خاصة إذا أحاطته مجتمعات هيأت الفرص الجميلة ليصنع الطفل بصمته الإبداعية في صياغة تعابير العيد بعدة أشكال كتابية وإنشادية وتمثيلية وتطوعية ليكون الأدب والفن جوهر جمال فرحته، حتى الحديث والحوار مع الطفل حول مظاهر العيد واستشعار قيمه الدينية والاجتماعية والنفسية والثقافية حتمًا ستُلْفِت اهتمامه وتشد عزمه لتطبيقها، وهناك العديد من الإنتاجية الكتابية التي برع بها الطفل في نقش حروفها المزخرفة بألوان التهاني والتبريكات وصدح بأبياتها الشعرية والنثرية عبر المنابر والقنوات، فكيف إذا فتحنا وشرّعنا أبواب الاحتواء لهذه المواهب الجمالية، حتمًا ستعجّ منازلنا وطرقاتنا ومدننا وقريتنا بمسرح طفل يمتلك كل المواهب وبفلسفة جمالية تخترق القلوب من صنيعه البارع.
فهذه الطفلة رند يحيى الزهراني تشارك في كتاب (أدب الطفل بأقلام الناشئة) كتابتها القصصية والتي استلمهت فكرتها من الحلوى فكان العنوان مفتاح دلالة للتأثير والتأثر «عيد الحلوى» تقول فيها: (تحت ظل الشجرة الباسقة الخضراء، جلست مع أسرتي بحديقة الحي، والسحاب والضباب بمدينتي الساحرة يعانق الشجرة، وكأن الحوار بينهما حول فايروس كورونا، فقلت لهم: هل تعلمين أيتها الشجرة، وأنت يا سحابة المزن بضبابها عابرة، ما حلّ بنا؟ في بداية الأمر ظننت أنه فايروس عادي، ولم أعلم أنه أليم ومخيف، ويحتاج إلى مقاومة ومسؤولية كبيرة مني كطفلة بريئة، وكمواطنة أعيش في أحضان أسرتي ومجتمعي السعودي، خاصة عندما بدأ الحجر المنزلي، حيث تسلّل الملل لنا، ولكن سرعان ما مرت الأيام، وأتى شهر الرحمة شهر رمضان، لنزداد صلة بربنا وندعوه سبحانه أن يكشف عنّا الوباء، لتأتي بمخيلتي فكرة الحلوى، وكيف ساستثمرها لكي تعود حياتنا جميلة كطعم الحلوى، وها هو العيد سيقبل بفرحة غير مكتملة، متباعدين عن أقاربنا، دون تبادل الزيارات والنظر لهم بعين البهجة، كيف سيصل لهم تعبيرنا بالفرحة؟ هل نكتفي بترديد عبارة «عيد سعيد»، فخاطبت صديقتي الحلوى، سأجعلك الجانب الزاهي يا نكهة عيدي، حيث طلبت من أبي أن يحضر بعض أنواع محددة من الحلوى، وصنعت لعائلتي توزيعات مبتكرة بزخرفات طفولية جذابة، وكتبت عليها عبارات تهنئة خلاقة مهذبة بنكهة لذيذة كالحلوى، وتبادلت الاتصال بالأقارب وبعثت لهم صورًا من بطاقات التهنئة، ومن حولنا من الجيران شاركتهم الإهداء بطعم الحلوى الخاصة بي، بل ازداد حماسي في وقت الحجر بمشاركة أمي في صنع بعض الحلوى، وأتقنت عمل القهوة العربية من أجل أبي، الذي شجعني وشاركني الإنجاز بقصة الحلوى، وزادني من رواية القصص وحكايات عن القهوة وأدواتها، حيث تعدّ رمزًا من موروث حضارتنا العربية، وأخبرني عن تجربة زراعة البن في منطقة الباحة وعسير وجازان، وهكذا عشت معالم فرحة العيد بوطني الصغير أسرتي، واستمتعت بطعم الحلوى في حضن وطني الكبير السعودية العظمى، ويعجز لساني عند وصف هذا الوطن فهو كالأم الحاضنة لأبنائها بحب ولطف وحنان، الوطن قصة عطاء كبيرة نستظل بظله الآمن كظلك أيتها الشجرة، ويروينا عطاء وصحة وأمنًا وأمانًا، كقطرات غيثك أيتها الغيمة، وفي كل يوم أعانق منجزات بلادي، وأرسم معالم الفخر بين كتاباتي، لأشارك في نقلها للجميع عبر كتاب جماعي يجمعني بأبطال السعوية). لقد أخذ الخيال الطفلة لعالم من الجمال بدا واضحًا فيه تأثير الطبيعة عليها والمظاهر الخارجية لفرحة العيد لتتشكل لديها ثقافة العناية والاهتمام بأقرانها في الكتابة لهم وتجهيز الهدايا بصنعة يدها، بل والفطنة في وضع الحلول الإبداعية في مواجهة الأزمة، كما نجحت الطفولة في صياغة عبارات التهنئة بالعيد كونها شعرت بالملل من ترديد نمط واحد من التعابير لا يتجاوز عبارة (من العايدين) لتكتب الطفلة مارية الأنصاري فلسفتها الجمالية في نص «تهنئة ومعايدة» شاركت به في الكتاب المشترك المذكور سابقًا: (في كل عام يهلّ علينا عيد الفطر المبارك ونتبادل التهنئة الشفهية بين تكرار وترداد للعبارات والتلميحات نفسها، قلة نادرة من تنقل جماليات فرحة العيد بلغة تعبيرية مميزة، بل وطغت لغة الزينة المنزلية لتجذب الأنظار أكثر من سحر البيان المعبّر بمفردات عربية فصيحة، فكانت لي تجربة في صياغة عبارات التهنئة بالعيد وتصميم بطاقات خاصة لي، لأهديها لمن يزوروننا بمنزلنا، وألقيها بمهارة أدبية في الإلقاء، تدربت عليها خلال شهر رمضان، وقررت أن أجعل عيدنا مع عزلة الحجر أكثر روعة ومتعة بتصميم بطاقات تهنئة العيد:
«أسرتي.. أمي.. أبي... إخوتي.. أنتم قدري.. ووجودكم حولي مصدر حبي وأماني، كل عيد وأنتم بهجتي وسعادتي».
«عائلتي» رمز فخري، في كل عيد لغة التواصل تحكي قيم المودة والمحبة بيننا، فيسكن الفرح عالمي ونتبادل العيدية لتكون أجمل هدية كل عيد وأنتم الخير والفرح الكبير».
«وطني.. فرحة تتراقص وسط الصعاب، بقوة تحتضن الشعب وتهديه الأمان، فرحتي بك كأمي حين أجدها وسط الزحام... كل عام وأنت خير الأوطان).
ويتضح من خطاب الطفلة أن اللحمة الأسرية والمجتمعية شكلت بجمالياتها حضور لغة الوعي بكتابتها فبدى التأثّر منها في نقش بصمتها الكتابية والإبداعية لتتجاوز بالإقناع ذلك فتقف بكل جمالية في ترديد كلماتها من مسرحها المنزلي لزوار بيئتها وتكسب الود في مظهر يفوق تعابير الكبار.
ولا يقف جمال الطفولة بالعيد على حد الكتابة التعبيرية بل حتمًا أن الفنون التشكيلية تستقطب المواهب الطفولية التي كانت حاضرة بالمعارض التشكيلية التي افتتحت خلال شهر رمضان المبارك. فالجمال كان ولا يزال يجذب الأبصار والأسماع ويلهم الصغار والكبار ويحرك الفكر لينبض حسّ الإنسان ويفيض بما حباه الله من مواطن جمال تسكنه، والحياة بكل مشاهدها المسرحية تثير بدهشاتها واقعنا وأيقظت الهمة للحفاظ على مكتنزاتها الموروثة وبرهنت لنا أجيال العصر غراس جمالها الحضاري والثقافي من مظهرها وشخصيتها، والعيد موطن تكامل الجمال بين فن الكلمة وفن الصورة وفن الصوت وفن الرقصة ليكون الطفل فارس مسارح العيد ونبض الفرح المجيد، ولا أجد أبلغ وصفًا لجمال الطفل والعيد كقول المتنبي لأختم به مقالتي:
الصوم والفطر والأعياد والعصر
منيرة بك حتى الشمس والقمر