د.الجوهرة بنت بخيت آل جهجاه
تؤثر وفرة النتاج الروائي في شعرية الرواية من جوانب متعددة، يختلف تصنيفنا لها وتقييمنا؛ فالوَفرة -كما أظنّ أنّ معظمنا قد يُسلّم بذلك- تقود إلى استهواء المحاكاة في بِنية السرد ومضمونه، وهذا النوع من الأثر ليس مما هو مَرغوب أو مُقَدَّر غالبًا، بخاصة إذا توقّف عند حدود نسخ تجربة يراها الرّوائي ناجحةً؛ سواء من جهة التقييم النقدي المتخصص، أو من جهة الانتشار والمَقروئية؛ لأنه يضمن انخفاضًا في مستوى شعرية الرواية.
وأما من الجانب الثاني للتأثير، فالوفرة تستفز الروائي لمُجاراة الروايات التي تصنَّف في المراتب المتقدمة من جهة تمثيل الشعرية السردية، وتشكيلها، وتطويرها. ومع هذه المُجاراة تتزامن عناية دقيقة بصناعة الاختلاف، والإضافة، وتشكيل مفارقة مَدروسَة مع هذا النموذج الذي حفّزه. ولا يغيب عن الذهن أنّ الحكم النقديّ بشعرية الرواية متجّدد من جهة الفلسفة والمعايير؛ مما يعني أنّ اقتفاء شعرية الأعمال الروائية يخضع للنظرية/النظريات السائدة/المسيطرة في فترة معينة؛ فترتفع روايات، وتهبط روايات؛ تبعًا للمفهوم، والفلسفة، والمعايير؛ التي يعتمدها الحكم النقدي للشعرية/الأدبية/الجمالية، وستتغير -في فترة لاحقة- المفاهيم، والفلسفات، والمعايير التي تطوّق شعرية السرد؛ فتتغير مراتب الروايات في سُلّم التصنيف. وحين أذكر مصطلح (الحكم النقدي)، فأنا أستحضر أنّ النقد الأدبي الحديث -حاليًّا- يُحلّل، ويُفسّر، ويُؤوِّل، ويُنظّر... إلخ، ولا يُصدر الأحكام والتقييمات النقدية الصريحة، غير أنّ مجرد الدخول في إطار معالجة شعرية السرد -أو الشعر كذلك- هو حكم ضمني على قيمة الشعرية.
مع وفرة النتاج الروائي الحالي أصبح لديّ ارتداد إلى قراءة الروايات التي تُعدّ قديمةً مقارنةً بزمن النتاج الحالي؛ لأنّ هذه الوفرة تُبرز التفاوت بين أطروحات النصوص أو المشاريع الروائية الحالية، وهذه التفاوتات تصنع ثغرةً تُحيل إلى نتاجات سابقة، يدخل بعضها في نطاق ما وُصِفَ بالتقليدي أو غير الفني؛ فأُفاجأ بوجود بِنَى سردية مدهشة -أحيانًا- في خصوصية شعريتها، وطريقة تشكيلها الهادئة أو الخفية التي لم تُبرز شيئًا لافِتًا للنقاد في زمن ظهورها.
آخر ما أشير إليه في هذا النطاق هو تأثّر موضوعية الحكم النقدي وشعريته -كذلك- بكمية الوفرة الروائية؛ إذ قد تُشكّل ضغطًا في عملية الإخلاص في القراءة الشعرية لتلك الروايات الكثيرة؛ فيخضع الحكم النقدي لعامل السرعة، والتعميم، والأحكام المسبَقة، والتصنيف شبه العشوائي... إلخ. كذلك، قد تُشكّل الوفرة الروائية ضغطًا في عملية اختيار زاوية القراءة، وفلسفتها، ومصطلحاتها، وغاياتها؛ فالناقد محكوم بأدوات قراءة ينبغي أن تكون منضبطة على مستوى النظريات الأدبية، أو النظريات النقدية، وأن تكون مُعلَنة؛ لتتخلَّق قراءة حِوارية مُنتِجة جماليًّا.
** **
- أكاديمية سعودية