سهام القحطاني
«العصافير تموت في الجليل.. نلتقي بعد قليل.. وجيل.. ورمت آلة التصوير.. عشرين حديقة.. وعصافير الجليل.. ومضت تبحث خلف البحر.. عن معنى جديد للحقيقة» -محمود درويش-
كانت عينا وصوتا للحقيقة التي تختبئ بين جرافات الهدم وأصوات الرصاص وأنين المجروحين ونحيب الثكالى وتحدي المقاومين.
ولعلها في كل حال تتذكر صوت شاعرة فلسطين الكبرى فدوى طوقان «حريتي.. صوت أردده بملء فم الغضب.. تحت الرصاص وفي اللهب.. وأظل رغم القيد أغدو خلفها.. وأظل رغم لليل أقفوا خطوها.. وأنا أناضل داعيا حريتي».
كانت كل يوم تنقل أخبار الحزن والألم والفواجع، ولعلها لم تكن تفكر ولو دقيقة واحدة أنها ستُصبح في يوم من الأيام هي خبر مثقل بالألم والحزن والفاجعة، ولكن في ميدان النضال لا أحد معصوما من الاستشهاد.
كانت مهنية في أحلك المواقف الانفعالية وهو أمر قلما من يستطيع الانفلات منه، فالتحرر من العاطفة والتمسك بزاوية الموضوعية والمحايدة جمرة غضى وموضع امتحان لا ينجح فيه إلا القليل، ولعل هذه الخاصية النادرة هي التي صنعت تميمة التميز التي أحاطت بشرين أبو عاقلة لمدة ثلاثين عاما.
شرين أبو عاقلة صحفية فلسطينية لكن قبل ذلك وبعدها هي امرأة فلسطينية ولدت وفي فمها ملعقة النضال فكان صوتها مصاحبا للرصاص وأحيانا أشد تأثيرا ووجعا في زمن الصورة هي واقع والتاريخ.
فلسطينية اختارت الهندسة المعمارية ولعلها كانت تفكر وهي تختار تخصصها الأول أمنيات المستقبل ما بعد الهدم والدمار يأتي زمن البناء والإعمار في أرض أحرق الظلم أشجار زيتونها وليمونها فلم تبق سوى جذورها التاريخية الراسخة التي لا تستطيع أي قوة مهما عظمت أن تقتلعها، لتزهر عندما يأتي الموعد الثاني.
ومآلها يردد مقولة محمود درويش «هل في وسعي أن اختار أحلامي، لئلا أحلم بما لا يتحقق».
شرين أبو عاقلة ولدت في القدس وتمتد جذورها لبيت لحم لتُصبح رمزا للتسامح الديني والوحدة الفلسطينية عندما تشتد الظلمة.
عندما تأكدت أن رحلة البناء ستتأخر كثيرا على محطة الانتظار بوصلة وجهتها شطر الصحافة، ولعلها وجدت فيها ضآلتها في زمن الكلمة هي ميدان حرب والصوت هو سيف نضال والصورة هي شاهد النصر أو الهزيمة، دليل لمعاقبة المجرم وحجة الضحية.
كانت بلا شك تعرف خطورة أن تكون مناضلة بلا رصاص وأن تكون شاهد عيان في كل فاجعة وألم وحزن، ولا شك أنها كان تعرف بأنها مشروع استشهاد يتنقل هنا وهناك ولعلها في كل مرة كانت تقول الحمد الله سلمت هذه المرة وهذه المرة وتستمر المرات تتسلل تحت مظلة السلامة حتى جاء الموعد الأخير الذي ثقب مظلة السلامة لتسقط برصاص الظلم لا لذنب سوى أنها أرادت أن تكون صوت المحزونين وعين المتألمين وشاهد عيان على الضحية والجلاد.
ستظل شرين أبو عاقلة رغم غيابها نموذجا مشرفا للصحفية العربية نفتخر بها، صحفية أثبتت أن صوت الحقيقة لا يقتصر على المذكر السالم.
تحية إجلال لروحها في السماء.
ولدت وعاشت وناضلت شرين أبو عاقلة على منهج محمود درويش عندما قال «أرسل من عدمي وجودي.. كلما احترق الجناحان اقتربت من الحقيقة وانبعثت من الرماد.. أنا حوار الحالمين».