أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: غادرنا الشيخ عبدالله الحسيني رحمه الله تعالى، وقدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه قبل أيام في شهر رمضان المبارك.. وأسفي أنَّ كلمة رثائي تأخرت، ولم أتمكن من حضور الصلاةَ عليه، وتشييعَ جنازته رحمه الله رحمة الأبرار، وجمعنا به في دار كرامته، وأعاننا على أنفسنا؛ لنسلك سبيل الهدى.. وعزائي لنفسي، ولأبنائه وأسرته، ولكل المسلمين بالدعاء له، والحمد لله على كل حال-، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال أبو عبدالرحمن: تتابع عليَّ أحداث مفجعة بفقدان الأحبة، وكلَّما حاولت تجميع انفعالاتي بكلمة رثاء ومواساة فوجئت بفقد حبيب آخر، فضاقت دوني منادح القول، فآثرتُ الدعاء تخصيصًا وإجمالاً كلما تذكرت.. ومن الركائز العلمية ورجال التعليم في بلادنا الشيخ أبي محمد عبدالله الحسيني رحمه الله تعالى؛ فكان بي حفيًا، وفقدُ أمثاله يُعَتِّمُ أجواء النفس المشعَّة؛ لعلمه وأدبه وإنسانيته وريادته وتواضعه.
قال أبو عبدالرحمن: عُرِفتْ حياته العملية منذ نشأته بالصِّدْقِ، والثَّباتِ على ما تيقَّنَ أنَّه حقٌّ، وأنَّه طاعةٌ لِوُلاةِ الأمْرِ فيما هو طاعةٌ في المعروف وليس طاعةً في منكر.. والتَّضحيةُ بالصبر على الأذى في بداية عمله في تعليم البنات ومعاناته.. وأولى ميزات الشيخ عبدالله رحمه الله هي الصِّدْقُ: فقد عايشْتُه وإنْ كان الشيخُ يَكْبُرُني بثماني سنواتٍ أو أكثر؛ فأنا شاهدٌ على ما عايشْته مَعْرِفةً مُباشِرةً، وعِلْمًا استنباطيًا منذُ تجاوُزي بُلُوغَ الْحُلُمِ، واكتمالِ مدارِكي وقُوايَ العقلية؛ فقد عايشتُ أحداثَ الْبَدْءِ في فتحِ مدارسِ التعليم، وأتَذَكَّر قول أستاذي عبدالله ابن خميس رحمه الله تعالى مخاطبًا الْمَلكَ فهدَ بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى لَمَّا كان وزيرًا للمعارف:
يا وزيرَ الْعِلْمِ هلْ مِنْ شِرْعَةٍ
تَمْنَعُ التعليمَ عَن ذاتِ الخِبا؟
فقد صدرتْ فتوى العلماءِ بتصديق سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله تعالى، على أهمية تعليم المرأة، وَوَافقتْ الْجِهَةُ الْمَسْؤُولةُ عن تنفيذِ أحكامِ الشرعِ؛ وهي الحكومةُ الرشيدةُ، وَجَعَلَتْ أَمَامهم ثلاثةَ خياراتٍ هي: أنهم غيرُ مُلْزَمِين بإدخال بناتهم في مدارسِ تعليم البنات؛ بل ذلك راجعٌ إلى اختيارهم.. وأَنَّهم مطالبون بالبرهان على أنَّ الشرْعَ يَمْنَعُ مِن تعليمِ البنت ؛ فكيْف والشرعُ يأمُرُ به؟.. وأنَّ آذانَ ولاةِ الأمرِ مُصْغِيَةٌ إليهم في أدنى شيءٍ يُحسُّونَ أنَّه مخالفٌ الشَّرْعَ في أيِّ مدرسةٍ مِن مدارسِ تعليم البنات.. طرحَتْ الدولةُ هذا الخيارَ؛ لأنها أَحْكَمَتْ السياجَ دون ما يُـخِلُّ بالمصلحة العامَّةِ التي مِن أَجْلِها شُرِعَ تعليمُ البنت؛ فكانتْ مناهجُ التعليم بإشراف العُلماءِ الأجلَّاء.. ومع الإشراف على المناهج المَقرُوءةِ: اشْتَدَّت الرقابةُ على التعليم تَطْبيقِيًا؛ وذلك باختيار المُدَرِّسة كفاءةً وصلاحًا، وبالحيلولةِ دون الاختلاط والْخَلْوةِ؛ فلا تركبُ البنتُ إلا مع وليِّ أمْرِها، وَتَنْتَظِرُ في المدرسة حتى يأتي ولِيُّ أمْرِها؛ لِينْصَرِفَ بها.. ومضْمُونُ الخياراتِ المذكورة: أنَّ الدولة وكلَّ ولاة الأمر يعترفون بأنَّ المُبَلِّغَ عن أيِّ خللٍ شرعيٍّ في المدرسةِ، أو في مناهج التعليم: مشكورٌ على بلاغِه، وأنه مُعِينٌ للدولةِ في تحقيق الْمَصْلحة واتِّقاءِ الْمَفْسَدةِ.. ويَدُلَّ على أنَّ هذا الخيارَ الكريم حَقَّقَ المصلحةَ: أنَّ أَشَدَّ الناسِ معارضَةً لتعليم البنت تحوَّل إلى أشدِّ الناسِ مُطالبةً بِتَعْلِيْمها، ومطالَبَةً بإتاحَةِ الْفُرْصَةِ لتعليم كلِّ البنات؛ بزيادةِ الْمَدارسِ، وتأمينِ وسائلِ النَّقْلِ مِن القريةِ إلى المدينة الْمُجاورة إلى أنْ تَبْلُغَ الطالباتُ في القريةِ عددًا يُتِيحُ فرصةً يَتِمُّ بها فَتْحُ مدرسةٍ بها.. وهكذا كان التسابُقُ والإلحاحُ على الدولةِ بأنْ تُتِيحَ فُرَصَ التعليم في كلِّ مراحلِ التعليم إلى مرحلةِ الدكتوراه.
قال أبو عبدالرحمن: أمَّا الْمِيزَةُ الثانيةُ للشيخ عبدالله، وهي الثَّباتُ؛ فَمِن المعلومِ أنَّه لم يكن عامِيًا؛ بل كان جَليسَ المشايخ وطلبةِ العلم، ثم لازم فضيلةَ الشيخ صالح ابن غصون رحمه الله تعالى، وتتلْمَذَ عليه، وأُعْجِبَ به شيخُه؛ فجعلَه مَوْضِعَ سِرِّهِ وتقديره؛ فمعنى الثباتِ إذن: أنه التَّضْحِيةُ والصَّبْرُ على الأذى مِن شَتْمٍ أو ضربٍ أو تهديدٍ أوْ سماعٍ لِما يُؤْذي ويُهينُ.. وكلُّ ذلك تَلَقاه الشيخُ الحسيني؛ فلم يِسْتَسْلِمْ، ولم تَضْعُفْ عَزِيمتُه، ولم يُدَاهِنْ؛ بل حاوَلَ أنْ يُقْنِعَ المُعارضين؛ وأَعْلَنَ لِلْمَسْؤُولينَ أنه لا يَعْرِفُ أسماءَ الذين آذَوْهُ؛ كي لا يتفاقم الْأَمْرُ ؛ لِعِلْمِه أنَّ مَرْجِعَهم في النهاية إلى الاعْترافِ بالحقِّ، ورجوعِهم إلى ما اختاره لهم ولاةُ الأمر؛ مِمَّا هو من مصلحةِ البنتِ؛ وهذا هو ما حصلَ بالفعلِ.. وأكْثرُ أذى ناله هو غُرْبتُه عن الأهل والولد ومَسْقَطِ الرأسِ في غُرْبةٍ كُلُّها كَبَدٌ.. فكلُّ الْمِيزاتِ لمذكِّراتِ الشيخ الحسيني هي الصدق، والإيمانُ بمشروعِيَّةِ الْمُهِمَّةِ التي كُلِّف بها، ثم الصبرُ والاحتمالُ لكلِّ ما نالَه في تأدِيةِ ما اْنتُدِب له.. وخلالَ انتداب الحسيني في مهمته كنتُ نائبَ رئيس الخدمات العامَّة برئاسة سعادة الأستاذ عبدالرحمن العثمان أرجو الله أنْ يَكْشِفَ ضُرَّهُ، ثم كنت رئيس الخدمات العامة بعد نقل سعادته مديرًا لتعليم البنات بجُدَّة، وكنتُ عندما أَصِلُ إلى سماحةِ الشيخ ناصر بن حمد الراشد رئيس تعليم البنات ببعضِ وُريقاتي ؛ ليوقِّعَها، أو يُوَجَّهني نَحْوَها: أرى وأسمع ما يدور بين سماحته وبين الشيخ الحسيني مما ذكره في مُذكِّراتِه هذه.. وكان سماحتُه شديدًا جِدًا في التصميمِ على رأيه لا يتراجَعُ بسهولةٍ، وهو رحمه الله تعالى يريد الخيرَ؛ لأنَّ تَعليمَ البنات في عهدهِ حقَّق كلَّ الأهدافَ المطلوبة لتحقيق أهداف التعليم، وكان الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى قد أعطاه الضوء الأخْضَرَ في كل ما يُحقِّق تلك الأهداف، وكان سماحته يُكِنُّ تقديرًا خاصًا لفضيلة الشيخ صالح ابن غصون رحمهما الله تعالى، والشيخ ابن غُصُوْنٍ نَفْسُهُ ذو عِلْمٍ مُحِيطٍ بِمَعْدَنِ الحسيني؛ فكان فضيلته يتردَّد على سماحةِ رئيس تعليم البنات؛ فنجحَ في تحقيقِ كثيرٍ من أعباء الحسيني لا كلِّها، ونَجَحَ الحسينيُّ في تَـحَمُّلِ بَِيَّةِ الأعباءِ بالله ثم تميزه بصبرِه واتقان عمله.. وشاهدتُ وسمعت شيئًا مِن أعباء الحسينيِّ خلالَ المُدَدِ التي اُنْتَدَبُ فيها إلى جُدَّةَ، أو أتَمَتَّع فيها بإجازتي في مكة المكرَّمةِ أو المدينة المنورة ؛ فأزورُ فيها العثمان أو الحسيني؛ لِقُرْب المسافة.. وكانت صلتي بالحسيني قد تَوَشَجَتْ منذ عام 1379هـ، وفي عام 1381هـ سَكَنا في قَصْرٍ كبيرٍ للبواردي يُقابلُ بابُه الرسمِيُّ بابَ مسجدِ (السَّبِخَةِ) الشرقي.. استأجره والدي من أَجْلِ زواج أُخْتي ؛ لأن بَيْتنا في الحسيني ضَيِّق، وَمُهَدَّدٌ بالسقوط في موسم الأمطار، بل أخذني والدي وأخي عبدالله وأختي عائشة رحمهم الله تعالى، ومعي أخي عقيل بعد وفاةِ والدتي؛ لننام في المسجد؛ خوفا من سقوط البيت، وقد سقطت في ذلك العام بيوتٌ في (الْقَعَرةِ) وغيرِها، ومات عَدَدٌ من الأشخاص كابن بريثنٍ رحمه الله تعالى.. وفي العام الذي انتقلنا فيه إلى حي السَّبِخَة (الصَّبَخة) كان خالي أبو سعود عبدالله بن محمد العقيل رحمه الله تعالى يصلِّي بالجماعة في مسجد السَّبِخَةِ.. وكنتُ أُصْدِرُ جريدتين حائِطِيَّتين بخطِّ اليد بالمَعْهدِ العلمي، واسم الأولى (نجدٌ)، واسم الثانية (الْمُوْتَمرُ)، وكان فيهما بعضُ قصائدي التي أُلْقيها في النادي بالمعهد؛ ومِن العجائب أنَّ في بعضِ القصائدِ ما أَحْسِبُ أنني غيرُ قادرٌ عليه الآن، ولا أدْري ما مصير الجريدتين الآن.. وكان الشيخ الحسيني يساعدني أحيانًا بِكِتابتِهما لجمال خطه، أو بالتصحيح؛ لأن مَدَارِكي آنذاك لم تبلغْ حَدَّ إتقانِ الرسم الإملائي، والضَّبطِ اللُّغوي.. إلَّا أنَّ الأسلوب مع هذا كان جميلاً، ولا أزال أذكرُ تغْريدَ أستاذي صادق صدِّيق رحمه الله تعالى ببعض الجُمَلِ مِن إنشائي كانتْ مَسْجُوْعةً مِن غيرِ تكَلُّفٍ مثلِ (في عامٍ مَضَى وانْقَضَى بسلام)، وبعدها سَجْعَةٌ أو سجعتان على ذلك النَّسق، ولا أذْكرهما الآن.
قال أبو عبدالرحمن: والْمِيْزَةُ الثالثةُ للشيخ الحسيني: يقيِنٌ عنده لا يَتَزَعْزَعْ، وهو الذي منحه بعد الله مِيَزَةَ الثباتِ التي أَسْلَفْتُها؛ لأنَّ وَعْيَهُ المُبَكِّرَ، ثُمَّ مُمارستَه في مدرسةِ الحياة منذ تجاوزِه الأشُدَّ، وعلمِه بأحكام الشرعِ مِن قراءِته، ومِن مُجالستِه أهْلَ العلمِ.. كلُّ ذلك: جَعَله يُراهِنُ على صَبْره، وتحمُّله صنوفَ الأذَى.. وفي يقينه: أنَّ أَشَدَّ الناس حربًا على تعليمِ البنات أصبح أشدَّ الناس حِرْصًا على تعليم البنات، والإلحاحِ على الدولةِ في تعميم التعليم ما ظلَّ المَنْهَجُ والبرامجُ والرَّقابَةُ على ما رسمتْه الدولة، وعلى ما أَقَرَّهُ علماءُ الشريعة، وعلى ما يديرُه مباشِرو التعليم من صيانَةِ الْمُعَلِّمةِ؛ وهذا هو الواقِعُ الذي عايَشَهُ الحسيني مُبَكِّرًا في شُهورٍ لا في أعوام.
قال أبوعبدالرحمن: لقد لقي رحمه الله ربه؛ فله إنْ شاء الله تعالى البشرى، ولنا البشرى بمآله؛ لأنَّ الثناء المتواطئ عاجل بشرى المؤمن في حياته، وعاجل البشرى لفاقديه المحزونين عليه باطمنئان قلوبهم على كريم غايته بمشيئة الله ورحمته.. وهذا اللقاء هو الذي أشار إليه لبيد بقوله:
وكلُّ امرئٍ سيعلم سعيَهُ
إذا كُشِّفتْ عند الله المحاصل
وأصدق من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}.
قال أبوعبدالرحمن: وإنني إنْ شاء الله معوِّض عدم حضوري الصلاة عليه بالدعاء له بإلحاح، وكلما مر ذكره العاطر في منتديات المجالس.. اللهم ارحمه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.. اللهم أبدله دارًا خيرًا من داره، وجوارًا خيرًا من جواره.. اللهم اجعل في ذريته الخير والبركة، وألهمهم الصبر والسلوان، وزدهم من نعمتك التي أنعمتَ بها عليهم من تواضع الصغير للكبير، وتآلف القلوب، والتسابق على ما توارثوه من الدين المتين، والطبع المشرق الخيِّر، والذكر الذي يفوح كأريج المسك.. وأخيرًا أقول دعاءً ورجاءً كما قال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه:
عليك سلام ربك في جنانٍ
مخالطها نعيمٌ لا يزول
اللهم آمين آمين آمين يا رب العالمين، وإلى لقاءٍ قادم إنْ شاءَ الله تعالى, والله المُستعانُ.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -