د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ذكرت في مقالة سابقة بعنوان «مابعد السياق» أن (ما بعد السياق) هو المعنى الذي يجده المتلقي فيما يسمعه من القول أو يقرؤه من الشعر خارج السياق، وخارج المعنى الحرفي للنص، بناءً على ما يحدثه القول في نفس المتلقي، وضربت ذلك بمفهوم ابن عباس عن «الرفث» وهو الذي يقال عند النساء بناءً على ما يحدثه القول فيهن.
وإذا كان سبب هذا الأثر تكويناً بيولوجياً لدى المتلقي، فإن القول قد يكون له أثر خاص في المتلقي يحتلف عن الآخرين ليس بناءً على التكوين البيولوجي أو (الخلقي)، وإنما بناءً على تجارب المتلقي الخاصة والسابقة للقول سواء كان بالاتفاق بين القائل والمتلقي أو غير اتفاق.
فمثلما يكون الحديث قائماً على اتفاق بين القائل والسامع، ما كنت قد تحدثت عنه في مقالة سابقة بعنوان (قول في الكلام) أوردت فيه قول المتنبي:
وإذا الفتى طرح الكلام معرضاً في مجلس
أخذ الكلام اللذ عنا
وفصلت القول فيه عن حالات القول والتلقي. والمهم هنا أن الكلام يقال في سياق عام يراد به سياق خاص لمتلق فرد في حالة تلق عام. هذا السياق الخاص يمكن أن يدرج فيما سميته من قبل ب»مابعد السياق» لأنه يخرج عن السياق العام إلى سياق خاص.
ومثله أيضاً ما استشهدت به في المقالة نفسها مما أورده صاحب (طوق الحمامة) عن الفتاة التي قالت لصاحبها: «لأفضحنك فضيحة مستورة»، وغنت في محفل أبياتاً تعرض إلى ما صار بينهما لا يفهمها أحد سواه. هذا الفهم الخاص الذي أدركه السامع دون غيره من الحاضرين، يمثل انحرافاً أو تميزاً عن السياق العام الذي أنشدت فيه الأبيات، هو سياق السماع والطرب، وخرجت به إلى سياق آخر هو ما دار بينهما حين أوعدته بهذه الفضيحة.
وقد يكون الأثر الذي يجده المتلقي نفسه ناتجاً عن تجارب خاصة سابقة للقول دون أن يكون هناك اتفاق بين المتكلم والسامع، وإنما يأتي اعتباطاً، فعندما يسمع المتلقي القول يجد في نفسه أثراً خاصاً بناءً على تجربة خاصة به دون علم المتكلم بهذا الأثر وربما أيضاً بالتجربة. ومن ذلك الأبيات في القصة المشهورة التي فيها أن زوجة أبي حمزة الضبي لم تنجب سوى البنات، فخرج مرة غاضباً حزيناً عازماً على هجران زوجته بعد أن أنجبت له بنتاً، وحين طال غيابه، واشتد شوق زوجه إليه أنشدت تقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا
تا الله ما ذلك في أيدينا
وحين سمع أبو حمزة الأبيات رق قلبه، وعاد إلى زوجه.
يقول بعض الدارسين: إن هذه الأبيات ضعيفة وهي إلى الركاكة أقرب، وأنه ليس من شأن هذه الأبيات أن تحدث هذا الأثر في نفس المتلقي، وتتسبب في إزالة ما يجده الرجل من غضب على زوجته التي لا تنجب البنين في الأحوال العادية، وإنما لأن أبا حمزة نفسه كان في شك وحزن على ما يقوم به من فعل، وعدم اقتناع بصوابه، فصادفت هذه الأبيات موقعاً مناسباً مما يجد في نفسه فاستجاب لها، وتوقف عن هجرانه إياها.
هذه الاستجابة القوية ناتجة عن الموقف الخاص لأبي حمزة تجاه هذا الحدث، ولو كانت مشاعره مختلفة تجاهه لما كان لها هذا التأثير، ولما نتج بسببها هذا الموقف.
هذا الموقف الخاص هو أشبه ما يكون بسياق خاص يتعرض له أبو حمزة، وهو خارج عن السياق العام الذي قيلت فيه الأبيات، وخارج أيضاً عن المستوى البلاغي للكلام.
ويمكن أن ندرج في أسباب التأثير أو صناعة السياق الخاص أن الأبيات منذ البدء كانت بتأثير من أبي حمزة نفسه، ففعله هو الذي أخرجها، وذلك أنها صدرت عن فتاة مكلومة لا صلة لها بالشعر ولا قوله، ترى زوجها يبتعد عنها فلا تجد ما تفعل إلا هذه الأبيات التي هي أقرب إلى الوساوس الحزينة منها إلى الشعر الصحيح الصريح. وقد ورد اسمه في مطلعها، وهي موجهة إليه وتربطه صلة خاصة بقائلها، وهذا أدعى أن يكون أثرها في نفسه كبيراً.
هذه العناصر المختلفة تقوي حقيقة بناء سياق خاص بجانب السياق العام. هذا السياق الخاص هو ما نصفه بأنه (مابعد السياق) لأنه يضاف إليه ويقدم معنىً مختلفاً عن المعنى الأصلي وهو هنا الحكم على الأبيات، والتأثر بها تأثراً مغايراً عما تنتجه من أثر في سائر المتلقين، مثلها مثل أبيات الفتاة المغناة في محفل عام، المذكورة في صدر هذا المقال. هذا المعنى لا صلة له بالسياق العام للأبيات، ولا صلة له بتكوين الأبيات نفسه، وإنما هو خاص بعد هذه العناصر جميعاً فهو إذا (ما بعد السياق). وكلمة «ما بعد» تعني أنه يضاف إلى السياق بمعنى مع اصطحاب السياق هناك أمر آخر مضاف إليه.