د. شاهر النهاري
لا ينكر الوعي أن الدهشة كانت مصاحبة لجميع ما برز في المجتمعات السعودية فجأة من مظاهر فنون على شخوص لم نكن نتوقع منهم ذلك قبل رؤية السعودية 2030، فكأن الفنون كانت مأسورة بين الأضلاع، قبل أن تتحطم أبواب وقضبان سجونها، ويخرج الأغلبية فنونهم وتذوقهم يبدعون ويبارون بها الأمم لتأكيد ما يشعرون وما يعرفون، ويتقنون، وما يتمكنون من إظهاره على شكل أعمال فنية، كانت تعيش في أنفسهم، من خلف حجاب.
وجدنا آلاف المغنين والعازفين على آلات موسيقية، وإن كانت الجودة متباينة بين فنان ومتفنن، كون الكثير منهم لم يتلق أي دراسات موسيقية، وله مع النشاز وقفات، ولكن المحصلة جعلت المنابر والمسارح تترنم بموسيقى، يحق لنا الاختلاف على جودتها.
وبرزت أعدادٌ عظيمة من الرسامين والتشكيليين، يشهرون لوحاتهم وأعمالهم، ويسابقون المسابقات، ويبرزون في المهرجانات، والمبادرات، وكل منهم يفرج عن أعماله الفنية الأسيرة، مهما كانت جودتها، ومهما كان مستوى تذوقه، وفهمه لما يرسم، وما يلون، وما يصنع من حيل مستحدثة لتبيان تميزه.
ولعل سؤالي أعلاه لا يشمل كل الفنون، ولكني أتساءل عمن يرسمون، وربما أعود مرات أخرى لأتحدث عن الفنون الأخرى.
الرسم، موهبة إنسانية غريزية تميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، مثل القدرة على الكلام، وتبيان ما يجول بالخاطر، بغريزة إنسانية تسعى لأن تقول أو تداري ما يكمن في النفس، فبالرسم نعبر عن ذواتنا، ومفاهيمنا، وعن خلجات أنفسنا، وعلاقاتنا بالمحيط والكون، وبها نبلور ما نريد إبرازه، مما قد لا نتجرأ على تبيانه طواعية، فنترك الخطوط والألوان تتحدث نيابة عنا.
الرسم، والفنون التشكيلية، وأنا هنا أفترض أنها موهبة صادقة أصيلة موجودة بالنفس، ومصقولة بالدراسة والتجربة والخبرة، هي خير وسيلة للتعبير عما يختبئ في أجوافنا، نتباهى بها، ونستحلي أن تنطبع في مرئيات الغير عنا، بعد مشاهدة شخابيطنا، أو روعة إبداعنا.
ويعود السؤال، فلماذا يرسم الإنسان؟
وهو سؤال بعمق وسمو وتعقيدات وخبث النفس البشرية، ومشاعرها بالرغبة في الانطلاق أو الوحدة والتوحد، أو بالجماعية، التي تجعلها جزءاً من كيانات حولها، تحاول التسميع والتجاذب والتخاطب والتباعد أو التكامل وفتح أبواب ذاتها لكل من يريد أن يجول في دهاليزها ويمر بغرابة مساعيها، ويتفهم سمو ذاتها، وعينها المتميزة بما ترى من خلفية الصور، وريشتها، القادرة على البوح والابتكار وتثبيت الأقدام، بطرق تحفظ لها التوازن وخط الرجعة، وحينما يتم اكتشاف نقاط الضعف فيها، ترفض وتنكر وتدعي أن ذلك ليس المقصود من رسمها، وأن الناقد لم يكن على قدر من المعرفة، وأن الصواب قد جانبه برؤية ما ليس فيها، والناقد هنا قد يكون واقعياً عارفاً يبحث عن العمق، وقد يكون مهتزاً يبحث عن ذاته.
النفس البشرية محيط عميق يزخر بالجماليات، والغموض، والخوف من المجهول، ولها الكثير من فراش وزنابق السطح، التي تحاول إخفاء العمق الداكن، ومنع التبحر والغوص العميق.
من يرسم عادة، يكون عاجزاً عن قول وتصوير ما يريد قوله، لذلك يختار الريشة طريقاً للبوح، يتميز عن بوح الآخرين، ومن زاوية علية أو جانبية، غير أنه قد ينزلق في سراديب الغرور والأنا، وقد يكون صادقاً، وقد يتجمل، أو يتحايل، وقد يكون حكيماً في تصوير العقد النفسية في الذات، وقد يكذب، ويهرب، ويرسم في مجالات لوحة بديعة أو غامضة أو مدعية، لا تمت للنفس بصلة، إمعاناً في التشكل، والهروب، أو في محاولات خجلى للقرب، من وعي وذوق من ينظر ويحلل، وفي أغلب الأحوال، لجعل الناظر يعشق أساس هذه الشخوط والبقع، والتأكيد على جماليات نفس مبدعها.
البورتريه، يكون مرات ذاتياً، ومرات لأشخاص آخرين، نود أن نكون مثلهم، أو أننا نحاول إبراز عيوبهم، ولكن السر في كل الحالات، يكمن في إسقاط الكثير مما في أنفسنا على الوجه المنتخب للرسم، فمرات يتعشقه، ويتمنى أن يكون حبيبه، ومرات يكون هو ذاته نفس الوجه، وربما يرغب في إظهار ميزة فيه، أو عيب لا يريد أن يرتبط به مباشرة، فيهديه للوجه المنقوش على اللوحة، ليحكي عن شيء ذاتي، مهما تضاءل ولكنه يظل يربط الرسام برسمته، ويظل هو المعنى واللغز، الذي يتمنى أو لا يتمنى أن تكتشفه العين، وأن لا تعود تربط بينه وبين ذات الرسام صلة.
الأمر معقد، فعالم النفس والأنا والتفرد والغيرة والحقد والسوداوية والحزن الكئيب، والهروب من الواقع كلها خيوط خفية تربط أصابع الرسام بلوحته، لتحكي، وربما لتزيد الغموض حولها، وتظل تختبر وربما تخادع الأعين والعقول، فلعلها أن تحقق المطلوب بتفهم أو تحويل مفهوم ما يريد الرسام تأكيده.
البعض يرسم وهو يدرك أنه يمتلك الأدوات، والحرفة، ويرتقي فوق كل النقد، وأنه يمتهن تمرير ما يريد من أرياش على أجنحته، بطريقته التشكيلية، وبقدراته التقنية، وبأعاجيب ألوانه وألعابه النفسية، والبعض تضعف أدواته وتنحسر، ولكنه يريد أن يدعي قدرته، وعمقه، وتميز إبداعه، بمجرد إبراز شيء في نفسه يؤمن به.
الرسم شازلون طبيب نفسي، يمتد الرسام فوقه إما طواعية، وإما مستسلماً، وبقدر من المصداقية، وربما بكثير من الخجل والحيل، إما ليفهم ذاته، أو ليزيد تعقيد الطرق المؤدية إليها، أو لمحاولة جعل الطبيب تائهاً إلى جواره، يكبر غموضه، ويمتدح خطواته، أو يظن أنه فاقد لقواه العقلية، أو أنه كومة عقد نفسية، يعجز كل مشرط عن فك خيوطها.
الرسم بديل بوح ساكن الكهف بحجرته، التي ينقش بها مرئياته عن هذه الحياة، بمخلوقاتها ومطامعها، ومخاوفها، ووحوشها، وخوافيها وغيبياتها، التي يتمنى أن يفك عقد أسرارها، وعندما يعجز، يتركها ذكرى، لمن يأتي بعده، فلعل مخيلته ومداركه أن تكون أكثر قدرة على فهم معانيها وتذكير الكون بمن رسمها.
الرسم طريقة تواصل بين الأحياء، قد تقرب بين من يرسم بمن يتصفح، وقد تجعل المستوضح يدور في حلقات قد تقود خطواته للبيان، وقد تفقده الحقيقة، فيقف أمام اللوحة عاجزاً عن الفهم، مثلما يحدث في دراسة لوحات عالمية شهيرة، تظل تحكي للأعين والقلوب والعقول والتاريخ، ويتنازع النقاد في معانيها لعصور طويلة، وأثمان اللوحة تزداد بكثرة نقدها، ما يرفعها فوق كل إبداع، وكل قيمة، بينما يتم نسيان الملايين من اللوحات الهجينة أو المهملة، أو التي لم تجد عين ناقد منصف، لتصبح هباءً منثوراً، والإنسان لا يتوقف عن الرسم، ولا يتوقف عن البوح، بما قد يهم، وما قد لا يهم الآخرين، وهنا يكمن الفرق، ومعرفة قيمة من يرسم، وما يتم رسمه حولنا، ونحن ننتقي، ونؤطر، ونؤصل، ونثق بمشاعرنا وعلمنا، وقد نفتقد الوسيلة، وربما نمر حولها مرور الجهل والطناش.