رغم أن ابن خالويه (ت370هـ) كان نحويًّا وصرفيًّا ولغويًّا وعالمًا في القراءات روايةً ودرايةً فإن أبرز جوانب شخصيته العلمية هو الجانب اللغوي، وقد برز هذا الجانب عند ابن خالويه في شكلين:
الشكل الأول: تأليف كتب برأسها في موضوعات لغوية: وتنوعت مؤلفاته فيها بين:
الشروح: شرح أسماء الله الحسنى، شرح المقصورة، شرح فصيح ثعلب، شرح بانت سعاد، شرح ديوان ابن الحائك، شرح ديوان أبي فراس الحمداني، شرح السبع الطوال، شرح غريب الحديث، شرح قصيدة غريب اللغة لنفطويه، شرح المقصور والممدود لابن ولَّاد.
والاشتقاق: اشتقاق خالويه، والاشتقاق. وحصر الأبنية: جمع فاعل، وأبنية أفعل. والمشترك اللفظي: ما اتفق لفظه واختلف معناه، والجامع المشترك، ولحن العامة: الآفق، والمذكر والمؤنث: كتاب المذكر والمؤنث. وحصر معانٍ دلالية: حصر الألفات، وحصر الماءات، وحصر ما ينوَّن وما لا ينوَّن في القرآن، وحصر معاني الصلاة الوسطى، ولفظي لدُن وكأيِّن في القرآن، وحصر معنى لا، وكل وبعض في القرآن، ومعاني العين، وكل معاني كلمة الآل، وما يتعلق بالنخلة من لغة، وأسماء الرسول، وأسماء ساعات الليل، وأسماء الأيام والشهور، وأسماء الحية، وأسماء الريح، ومعاني اطرغش وابرغش أي برئ وشفي. إلى جانب الكتب اللغوية التي لا نعرف موضوعها تحديدًا لكنها لن تخرج عن الموضوعات السابقة، مثل: المسائل، والمفيد، والمهذب في اللغة.
والشكل الثاني: ظهور ثقافته اللغوية في ثنايا كتبه المؤلفة في موضوعات أخرى: حيث تعرض لقضايا لغوية جزئية مما تعرَّض له في كتبه المستقلة، وقد قامت عدة بحوث بدراسة هذا الجانب اللغوي عند ابن خالويه(1)، ومنها يتضح أن الموضوعات اللغوية التي تناولها، هي: الموضوعات التي شغلت كتبه المؤلفة رأسًا في اللغة جاءت عرَضًا في معالجاته في داخل كتبه غير المؤلفة رأسًا في اللغة، فقد عرض في «الطارقية» و»شرح فصيح ثعلب» لجمهرة من القضايا اللغوية عَرَضًا في سياق الدرس اللغوي التطبيقي الشامل، مثل: اللهجات، واللغات، والترادف عامة، والترادف في القراءات القرآنية خاصة، وكان من القائلين بوجوده في القرآن الكريم، والمشترك اللفظي فقد كان من القائلين بوجوده في اللغة، والأضداد، والأعجمي، والدخيل والمعرَّب وكان من القائلين بوجودهما في القرآن الكريم، والمذكر والمؤنث فقد كان حريصًا على الإشارة إلى المذكر والمؤنث من الألفاظ، والاشتقاق والنحت اللغوي، وسنقف وقفة مع أنواع الاشتقاق التي وردت عنده فيما يأتي، والتصريف، والفروق اللغوية، والقضايا الدلالية التي سنقف معها وقفة أيضًا، وعرض لسَنن العرب في كلامها كالتكنية عن الشيء وإن لم يتقدم ذكره، ومخاطبة الواحد بلفظ الجمع، والتصحيح اللغوي ولحن العامة، والتنمية اللغوية للقارئ لإغناء معجمه بالمفردات والتراكيب لتساعده في الأدب والإبداع، وهي كالتي توجد في أدب الكاتب لابن قتيبة ومصنفات الجاحظ والثعالبي وابن فارس وابن جني، وابن خالويه يسلكها للقارئ في ظلال النص القرآني خاصة في كتابه «الطارقية» و»إعراب القراءات السبع وعللها».
وكثر جدًّا في «شرح فصيح ثعلب» الحديث عن الجموع، وعن معجم الألفاظ المترادفة مثل أسماء القضيب وأسماء الوحل وأسماء الخنفساء، والكلام في مرادفات لفظ «رأس» وفروعه، ومادة «أكل» و»أمم» و»جبر» وغيرها كثير جدًّا.
وكثر حديثه عن قضية الاتباع والإبدال في كتاب «ليس» و»شرح المقصورة»، وفي كتاب «شرح المقصورة» تعرَّض للقضايا السابقة أيضًا إلى جانب الإشارة بكثرة إلى المقصور والممدود من الكلمات في كل بيت ويبين الخلاف في كتابتها بين البصريين والكوفيين؛ بسبب كثرة وجودها في مقصورة ابن دريد، بالإضافة إلى الحديث عن ظاهرة الإعلال، والمثنى.
الاشتقاق(2): وبالنسبة للاشتقاق فقد بيَّن في «إعراب ثلاثين سورة» الاشتقاق وأن الأصل فيه الفعل، ووظف الاشتقاق الصغير في اشتقاق الكلمة اعتمادًا على المسموع والقياس عليه، واستخدمه لتأصيل الكلمات وردها لأصولها، ولم يظهر عنده أثر للاشتقاق الكبير، بينما الاشتقاق الأكبر تعددت مواضعه وعزيت أسبابه إلى أسباب صوتية، بهدف السهولة في النطق، وتحدث عن الاشتقاق الكبار (النحت اللغوي) وعدَّه نوعًا من الاشتقاق.
بينما قل حديثه عن الاشتقاق جدًّا في «شرح فصيح ثعلب» فلم يذكر إلا اشتقاق كلمة ماء.
القضايا الدلالية: في كتابه «الطارقية» أكثر من ذكر الفروق الدلالية سواء في الأسماء مثل: الفرق بين الأمهات والأمات، والحمد والشكر، والفقير والمسكين، والفرق بين مَلِك ومالك يوم الدين، واليتم في الناس وفي البهائم. أو في الأفعال مثل: حل يحُل وحل يحِل، علا يعلو وعلى يعلى، هوى وأهوى.
وكذلك في «شرح فصيح ثعلب»، حيث تكلم عن الفرق بين الغيظ والغنط، والدمامة والذمامة، والقضم والخضم، وميْت وميِّت.
مصادره اللغوية: مصادره عامة في كتبه اللغوية: القرآن الكريم والقراءات القرآنية، والحديث الشريف، والأشعار والأرجاز، ولغات القبائل، وكتب العلماء السابقين ومروياته عنهم وهي كثيرة كثرة ملحوظة؛ فمن مصادره في كتاب «ليس» علماء البصرة؛ الأخفش، والأصمعي، وأبو بكر بن الخياط، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وابن دريد، وأبو زيد الأنصاري، وسيبويه، وأبو عبيدة، وأبو عمرو الجرمي، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والمازني، والمبرد، ونفطويه.
ومن الكوفيين ابن الأعرابي، وثعلب، وأبو جعفر الرؤاسي، وأبو عبيد، وأبو عمر الزاهد، وأبو عمر الشيباني، والفراء، والكسائي، واللحياني. ومن رواة التفسير والحديث: الأعمش، والطبري، وابن مسعود، وابن مجاهد، والقرَّاء.
ومن مصادره اللغوية في «شرح المقصورة»: العين للخليل، الكتاب لسيبويه، معاني القرآن والأيام والليالي والشهور للفراء، والخيل لأبي عبيدة، والخيل للأصمعي، وغريب الحديث لأبي عبيد، وإصلاح المنطق وتهذيب الألفاظ لابن السكيت، وتفسير الطبري، وجواهر الألفاظ لقدامة بن جعفر، والزاهر في معاني كلمات الناس لابن الأنباري، والقراءات السبعة لابن مجاهد.
وقد حفظ لنا في «شرح المقصورة» نصوصًا من كتب مفقودة، مثل: كتاب ابن السكيت «المثنى والمكنى والمبنى»، وكتاب ابن كيسان «الحقائق».
شخصيته اللغوية: شخصيته اللغوية ظاهرة جدًّا في مؤلفاته، فلم يكن مجرد ناقل لرأي غيره، بل كان يعرض الآراء ويبينها ويفندها ثم يختار ويرجح من بينها؛ مستدلا بما عنده من موفور المحفوظات وكثير الرواية من شواهد وبما كوَّنه من رأي، ففي «شرح المقصورة» كان يرد قسمًا من أقوال العلماء ويناقشها؛ فقد ردَّ على سيبويه وابن السكيت واللحياني. وشخصيته اللغوية في كتاب «ليس» كانت أوضح ما تكون في الاستدراك والإضافة والمناقشة والرفض والتأييد، بل الكتاب كله لا يجرؤ عليه غير صاحب شخصية لغوية قوية؛ فيصدق فيه قول القائل: «بيد أن له منهجًا واضحًا وشخصية بارزة في معالجاته اللغوية في الدرس القرآني تسامت جهود الفراء والأخفش وابن النحاس والزجاج وخلافهم، قد فعل قضايا لغوية جمَّة من خلال إعرابه ثلاثين سورة من السور القصار»(3).
قيمة كتبه اللغوية: كتبه مليئة بمعالجات القضايا اللغوية؛ فكتابه إعراب ثلاثين سورة «وعاء حُشي علمًا وظرفٌ أوعب أفانين أدبية ولغوية شاملة فهو يشبه أن يكون دراسة فيلولوجية معاصرة شاملة»، ففي مؤلفاته الدرس المتكامل للأنماط اللغوية والتنقل في المعالجة من نحو وصرف وأسلوب واشتقاق ودلالة مع منهج واحد(4). وتحتل كتبه قيمة لغوية كبيرة لاعتبارات كثيرة منها:
-كثرة الشواهد: حيث في «شرح المقصورة» ذكر كثيرًا من القراءات القرآنية بلغت مائة، وفي شرح المقصورة أورد شواهد لغوية بلغت ألف شاهد، وقد انفرد برواية قسم منها؛ لذا فهو مصدر مهم في الاستدراك على الدواوين المطبوعة مثل: ديوان رؤبة، وعبدالصمد بن المعذَّل، وعدي بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وجرير، والفرزدق، وعمر بن أبي ربيعة، وعمران بن حطَّان، وأبي نواس، وأبي الهندي، وابن أبي طاهر، والفضل بن العباس اللهبي.
وفي كتاب «ليس» من الشواهد الشعرية ما يقرب من مائة وتسعين بيتًا، وما يقرب من عشرين حديثًا، وذكر النادر والغريب من كلام العرب ومما ليس في كلام العرب، وشواهد نحوية ليست في كتب النحو، مع العلم أن هذا وصف لما احتواه ما وصلنا من كتابه، وقد فقد أكثره، فما بالك لو وصلنا كله.
- الرواية اللغوية: حيث اعتنى بالرواية اللغوية وسند الرواة إمعانًا في التوثيق والأمانة مع أن الرواية عن الأعراب أو علماء اللغة قد خفت في هذا القرن باعتبار أن الموروث قد بات مجموعًا موثقًا، ونادرًا ما نجد رواية غير القليل عند ابن جني في الخصائص أو مصنفات ابن الشجري.
- في كتاب «شرح المقصورة» قضايا لغوية كثيرة استفاد منها أصحاب معجمات المعاني مثل أسماء السيف والرياح والحيات والنبات وأصوات الحيوانات والطيور.
- إيراده لبحوث نادرة قيمة، ففي كتال ليس أورد بحوثًا نادرة عن «فو» و»ثم» و»أمسِ» و»الآن» و»هذي» و»كلتا»، وبحوث نادرة في خلق الإنسان، وغرائب الجمع والتثنية والمصادر.
- وذكر كثيرًا من الخلافات بين الكوفيين والبصريين.
- يذكر كثيرًا من اللهجات مثل لغة بلحارث ولغة عبد القيس.
- شمول كتبه للقضايا اللغوية والصرفية والنحوية والدلالية والصوتية.
- يميل إلى الاختصار والإيجاز فكتبه موجزة غير مملة.
-كثير الإحالة إلى كتبه الأخرى؛ مما حفظ أسماءها من الضياع.
- يكثر من ذكر القراءات القرآنية جدًّا لأن علمه فيها واسع.
تأثيره اللغوي فيمن بعده: نهل منه كثير ممن آتى بعده؛ فالسيوطي(ت911هـ) نقل عنه في كثير من مؤلفاته وفي المزهر وحده نقل عنه في أكثر من خمسين موضعًا، وابن ناقيا البغدادي (ت485هـ) في شرح الفصيح، وابن القطاع الصقلي (ت515هـ) في كتابه «أبنية الأسماء والأفعال والمصادر» نقل في أربعة وأربعين موضعًا من كتاب «ليس»، واستفاد كثيرًا منه الصغ اني(ت650هـ) في مؤلفاته، واللبلي(ت691هـ) في تحفة المجد الصريح، والآثاري في «الكفاية في شرح الهداية»، وأصحاب المعجمات الكبيرة ابن منظور والفيروزابادي.
المآخذ اللغوية عليه: أخذ عليه عدة مآخذ، هي:
- كثير التكرار في شرح الكلمات اللغوية وتكرار الشواهد في «شرح المقصورة» وفي «ليس».
- الوقوع في أوهام؛ حيث في شرح المقصورة وقع في أوهام قليلة في النسبة مثل نسبة بيت لرؤبة وهو للأعشى، ونسبة بيت للأعشى وهو للنابغة، وفي نسبة بعض القراءات. وفي كتاب ليس يخطئ أحيانًا حيث ذكر أن هداهد تصغير هدهد، والصواب أنه بمعناه مكبرا(5).
- وأخذ عليه في كتاب ليس التسرع في الحصر، وفي إصدار الحكم.
- وفي كتاب ليس يستشهد أحيانًا بما لا يؤيد ما ذهب إليه، وهناك مآخذ أخرى ذكرها عبد الغفور عطار.
- رغم أنه كان حريصًا على ذكر السند فقد تركه أحيانًا في كتاب ليس.
- الاستطراد: رغم أن ابن خالويه كان يميل للإيجاز والاختصار فإنه أحيانًا يستطرد ويخرج عن الموضوع لموضوعات أخرى؛ ففي «شرح المقصورة» أبواب مهمة قائمة بذاتها استغرقت صفحات كبيرة مثل باب في ذكر ما قيل من المنظوم والمنثور في الخيل وما يستحب فيها، وباب في ذكر الشيب وما قيل فيه، وباب في ذكر الخمر وما قيل فيه، وأخبار وأحاديث تاريخية مثل قصة الزبَّاء والوضَّاح، والسموأل مع امرئ القيس، وخبر سيف بن ذي يزن مع الحبشة، وكتاب المعتضد لإسماعيل بن بُلبل يطلب فيه شعر اليهود، وذكر أسماء النبي وصفاته.
الهوامش:
(1) انظر: بحث «المسائل الصوتية والصرفية والنحوية واللغوية لدى ابن خالويه من كتابه إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم»، أحمد فليح، مجلة جرش للبحوث والدراسات، الأردن، مجلد4، عدد1، كانون الأول، (1999م)، (ص124)، بحث «المستوى الصوتي الدلالي في كتاب إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم لابن خالويه المتوفى سنة (370هـ)»، سعيد محمد محمود الفواخري، مجلة كلية اللغة العربية بالزقازيق، جامعة الأزهر، مصر، العدد 27 جزء1، 2007م، (ص677-818). بحث «قراءة في الفكر اللغوي لابن خالويه من خلال كتابه إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم»، سعدون عبد الكاظم جاسم، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بابل، العراق، المجلد الأول، 2010م، (ص325-343). ومن هذه البحوث لخَّصت مادة هذا البحث مع إضافة ما يتعلق بكتاب «شرح فصيح ثعلب».
(2) بحث «قراءة في الفكر اللغوي لابن خالويه من خلال كتابه إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم»، سعدون عبد الكاظم جاسم، (ص325-343).
(3) بحث «المسائل الصوتية والصرفية والنحوية واللغوية لدى ابن خالويه من كتابه إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم»، أحمد فليح، (ص123).
(4) السابق، (ص124).
(5) شرح المقصورة، (ص45).
** **
د. محمد علي عطا - رئيس قسم اللغة العربية وعلومها - جامعة باشن العالمية المفتوحة بأمريكا
Ma.ata.2020@gmail.com