اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
والمملكة العربية السعودية التي أنعم الله عليها بنعم كثيرة من ضمنها نعمة الطاقة قيَدت هذه النعمة بالشكر بعيداً عن استغلالها أو احتكارها رغم الملكية المشروعة وكلمة الحق المسموعة حيث كان لها باع طويل في استقرار الأسواق العالمية، ولها قدم صدق في التعاون مع المنتجين وخدمة المستهلكين في سبيل توفير هذه الطاقة وتأمين إمداداتها لمن يحتاج إليها رغم ما صادف المملكة ويصادفها من صعوبات من أولئك المتآمرين وأشرار المستثمرين.
ودائماً تحاول المملكة سواء بمفردها أو من خلال مجموعة «أوبك» أو تحالف «أوبك +» أن تنأى بالطاقة عن خبث السياسة وإقحامها في الصراعات البينية والمشاريع الاستعمارية، حرصاً منها على إبعاد هذه المادة الحيوية عن مسرح الصراعات وميدان المنازعات التي يحاول أطرافها من القوى الكبرى استخدام العقوبات الاقتصادية كوسيلة للضغط على الدول المغلوبة على أمرها ومحاصرتها.
ومنذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية وإعلان دول المعسكر الغربي فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا وقيادة المملكة تدعو إلى الحياد المثمر الذي يضمن تدفق إمدادات الطاقة إلى الأسواق العالمية بعيداً عن الزج بهذه السلعة ذات الأهمية البالغة في معترك الاحتراب واستخدامها كوسيلة للضغط والاستقطاب، ومحاولة البعض الربط بين البعد الأمني والبعد الاقتصادي ربطاً تعسفياً خارج الحدود البينية ومجرداً من الضوابط المرعية.
وفي زمن العولمة تحاول الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على مصادر الطاقة في أي مكان من العالم إلى درجة أنها ترى أن الحرب الكونية في ظل العولمة الليبرالية تكمن في السيطرة على الثروات الطبيعية في العالم وعلى وجه الخصوص النفط والغاز، مستبدلة مفهوم الجيوبوليتيك التقليدي بمفهوم جيوبوليتيك النفط، وما يهدف إليه ذلك من جعل مناطق النفط في العالم مسرحاً للصراع الجيوبوليتيكي للاستيلاء على هذه المناطق، كما يظهر من تحريك الأزمة الأوكرانية وتأليب الدول الأوروبية على روسيا على نحو يشير إلى هذه النظرية من طرف خفي، فضلاً عن أنه يشكل امتداداً لما حدث ويحدث في الشرق الأوسط وقد قال: هنري كيسنجر مقولته المشهورة: «سيطروا على النفط وستسيطرون على الأمم».
والواقع أن الصراع في أوكرانيا له علاقة بهذا الموضوع حيث لم يبقِ هذا الصراع صراعاً بينياً بين دولة وأخرى، وإنما أصبح صراعاً بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي، واختلط فيه العامل الأمني مع العامل الاقتصادي بعد فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، وما أدى إليه هذا الإجراء من انتظار اليوم الذي يحاول فيه كل طرف من الطرفين استمالة دول أخرى إليه بعد وضع هذه الدول أمام الخيار الصعب عن طريق إخضاعها لنظرية «مع أو ضد» تمهيداً لكسر مفهوم الحياد وجعل هذه الدول هدفاً مشروعاً للتربص، وهو المكان الذي اختارته أمريكا للدول التي صنفتها بأنها غير ديمقراطية في مؤتمرها الذي دعت إليه سابقاً.
وتقتضي المصلحة الوطنية والقومية من الدول العربية ضرورة الالتزام بالحياد المرن الذي تكون فيه الخطوات محسوبة والمرونة مطلوبة، وأي تعويض للطاقة الروسية في الأسواق العالمية يجب أن يكون ضمن الحدود المقبولة والمعقولة، وأن يكون له ثمن سياسي، وأن يلعب دوراً في الحفاظ على أسعار الطاقة على المستوى العالمي مع ممارسة درجة من النفوذ والحصول على تنازلات من الطرف الآخر، علاوة على إيجاد مساحة لتقوية العلاقة البينية المطلوب تقويتها.
وعلى الجانب المقابل يتعين على الدول العربية أن تستثمر الحياد من أجل الإعداد والاستعداد للمستقبل والتحسب لكل ما يطرأ من مفاجآت ويحدث من تغييرات بسبب الصراع بين روسيا ودول المعسكر الغربي، فعلى المستوى القطري يتم التركيز على الأنشطة ذات الطابع الأمني والاقتصادي لجعلها في منأى عن أي ضرر يلحق بها من جراء الصراع والعقوبات المفروضة.
وهذا يعني جهوزية القوات العسكرية والربط بين سياسة القوة وقوة السياسة مع المحافظة على أمن الطاقة والاهتمام بالأمن الغذائي والأمن الاجتماعي، وكل ما له علاقة بأمن واستقرار المجتمع وحشد جهوده لمواجهة الموقف والتعامل معه بوعي وحذر.
وعلى المستوى القومي يلزم الدول العربية أخذ العبرة والاستفادة من موقف دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا أثناء الأزمة، وما حصل بين هذه الأطراف من التوافق السياسي والتقارب الأمني والتماسك البيني، ومن هنا تعمل الدول العربية على إحياء جامعتها وتوحيد كلمتها وتفعيل معاهدة دفاعها المشترك بالشكل الذي يُمكَن كل دولة من بناء قوتها الذاتية، ويجمع الجميع تحت مظلة عربية تحمي المصالح المشتركة وتحقق الأهداف القومية وتدافع عن الأمة ضد الأعداء الذين يحاولون تهميشها وإهدار كرامتها والعبث بمصير شعوبها.
وعلى هذا الأساس خليق بالدول العربية سواء بصورة جماعية أو جزئية أن تُفعِّل ميثاق دفاعها المشترك وأن تتحالف فيما بينها تحالفاً عسكرياً لمواجهة الأخطار المشتركة وتأمين كيان الأمة ضد هذه الأخطار، خاصة أنه يجمع بينها انتماءات دينية ووطنية وقومية ومصالح متبادلة وعلى درجة من التماثل في المصالح والأهداف مع التقاء الأمن الوطني لكل دولة منفردة بالأمن القومي للأمة العربية في ظل الانتماء الديني.
وفي الختام فإن الدول تتحرك محكومة بالمصالح وليس بالمبادئ والقانون الدولي وحقوق الإنسان والتحالفات والصداقات في غياب القوة الذاتية والإرادة الوطنية تفقد قيمتها ويبطل مفعولها، نظراً لأن هذه المبادئ إذا لم تستند إلى قوة واعتماد ذاتي فإن الذي يعتمد عليها مصيره إلى الهوان والإصابة بعمى الألوان، مما يتطلب من الأمة العربية الاستفادة من هذه الأزمة لمواجهة ما ينتظرها من أزمات ويتربص بها من عداوات.