مشعل الحارثي
وقوفاً بتلك الأرض الجرداء الموحشة التي تذكرنا ببدء الخلق الأول، وتحت أشعة الشمس اللاهبة، وأمام تلك القبور المتجاورة إلى بعضها البعض وما تحمله من أجساد بالية والممتدة على أفق النظر بنصبها الحجرية المتراصة هي الأخرى في خطوط متوازية، والتي تشكل مشهداً يرتجف له القلب وترتعد له الفرائص، وذلك الشعور الذي يداخلنا ساعتها بأننا نقف على مقربة من جب النهايات.
وفي جزء من هذا المكان ووسط حشود المشيعين الذين جاءوا ليشهدوا يوم الوداع الأخير رأيت تلك الوجوه المنكسرة البائسة التي بخست بهجتها وهي تنتحب في وداع من غابوا ورحلوا عنا من احبابها واقربائها وأصدقائها، ووجدت أني بلا مقدمات اشاركهم البكاء واقاسمهم آلام الفرقة وحديث الوداع، وأمام هذا المشهد المروع انتحيت جانباً ووقفت ساهماً شارد الذهن معلول الفؤاد متأملاً هذه الحياة وهذه النفس وبلا مقدمات وفي وحشة التيه ورائحة الموت التي تعبق أرجاء المكان تناسلت الأسئلة ما بيني وبين نفسي فقلت لها: ما بالك يا نفس وقد غديت اليوم وعلى غير عادتك مكبلة بالأسى والانين واغرقت فجرك بالدمع السخين وتدثرت روحك بهذه الأسبال الداكنة واحترقت بأحزانك الهالكة.
فأجابت النفس: هي بلا شك تداعيات آلام الفراق والوداع الأخير لمن الفناهم بيننا وسعدنا بوجودهم في حياتنا وأصبحوا منذ اللحظة جزءاً من ذاكرتنا، كما أن الموت وذكره وتذكره هو نوع من المكابدة الإنسانية للأحياء فما بالك بالأموات وهم يمرون بهذه المرحلة الانتقالية، أما نحن الأحياء فهي مرحلة سرعان ما تمضي ونعود لطبيعتنا ونستكمل دورة الحياة.
ولكن مهلاً يا نفس وبكل هذه البساطة تريدينني ان انساهم وكيف أفعل إذاً أمام هذا الشعور بالخوف من الموت الذي يتملكنا كلما زرنا هذا المكان؟ وكيف لي أن ارتاح وأنا أرى أمام ناظري في هذه المقابر تلك الأجساد المسجاة وهي تحيط بي من كل مكان؟ وانظر من خلالها لمصيري المحتوم ولليوم الذي أكون فيه أنا الضيف القادم وأحل بجوارهم، كيف لي أن اتخلص من شبح الموت هذا الذي يطاردني ويقض مضجعي على الدوام وأنا اشهد ما بين حين وآخر تقاطر مواكب هذه النعوش والجنائز وقوافل المغادرين حياتنا إلى الابد؟.
فقالت النفس: هون عليك يا صديقي هون عليك فالخوف من المجهول هو أمر طبيعي وإن كان الموت نقيض الحياة فهو قدرنا ومصيرنا المحتوم، وإن كانت الحياة هي الهبة الأولى من الخلاق الكريم ومدبر الكون العظيم فإن الموت يا صديقي العزيز هو العطاء الأخير لرحلة الحياة وفيه ايضاً تكمن حكمة الحياة.
فقلت: وكيف ذلك أيتها النفس في تحول الموت الذي لا نطيق حتى سماع ذكره إلى حكمة؟
فأجابت النفس: نعم يا صديق العمر ورفيق الدرب ألسنا مدركين ومقتنعين تماماً بأن للجسد دورته الطبيعية من الطفولة والصبا إلى الشباب ثم الكهولة ومن ثم الوهن والضعف والوصول أحياناً إلى مرحلة أرذل العمر؟
فقلت: نعم نعم هذه حقيقة لا غبار عليها.
وواصلت النفس حديثها فقالت: إذاً فحياة الفرد منا فترة محدودة جداً، ولا مكان ولا منطق مع استمرارية ووجود كل هذه الاجساد منذ بدء الخليقة وتعاقب القرون والاحقاب على قيد الحياة ما لم تموت وتغادر طالما هذا هو اخر مطافها ورحلتها القصيرة، وفناء الجسد على الأرض وصعود الروح إلى السماء تظل سراً من اسرار الخالق العظيم {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، وهو ما يجب أن لا يشغلنا في دنيانا عن مرحلة الخلود الأبدية.
فقلت يا نفس: إذاً هل لك ان تخبريني عن حقيقة هذا الموت وأسراره وإلى أين نحن ذاهبون، وماذا عن خلود النفس وفنائها أو استمرارية بقائها بعد الموت؟
فقالت النفس: تريد يا صديقي أن تنتقل بي للحديث عن ثنائية الجدل بين الموت والحياة ونظريات الوجودية والعدمية وما إلى ذلك من جدل وفلسفات تطول وتطول وما تقود إليه افكار تلك النزعة المادية للوجود من شكوك وخلخلة في المفاهيم، ولكني اقول لك دع عنك كل ذلك فالإنسان المؤمن حقيقة الإيمان واصحاب النفوس الحية المتعلقة بالله المؤمنة بما جاء في كتابه الكريم ومنهجه القويم وبأن {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، و{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، و{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، ففي حال تذكرهم للموت أو حضورهم لمثل هذه المشاهد في القبور يمثل لهم كشف حساب لما قدموه من عمل وتقييم حي لعلاقتهم برب الخلق والوجود، وهو أيضاً جرس انذار لما بقي لهم من العمر في اصلاح ما كان من خلل وسرعة العودة إلى الطريق السوي بهمة وقوة وصفاء نفس وذاك والله خير درس يخرج به المرء من ذلك المكان الموحش.
فقلت: ولكن يا نفس ماذا أفعل عندما يحل الموت بمن نحب ونحضر لحظات تشييعهم؟ وتحل بنا تلك اللوعات والحسرات وتذرف الدموع وتكثر الأنات؟.
أجابت النفس: أن نتقبل الأمر بكل رحابة صدر ولا نبالي بالموت ونتجاهل التفكير الدائم به ومتابعة حياتنا الطبيعية بلا خوف ولا وجل، ونتيقن تماماً بأن الأرض وإن ضاقت بنا فإن السماء تفتح ذراعيها مرحبة بنا وبمن غادرنا ومن يرحل عنا في كل حين، وتدعونا لأن نهجر حقول الحزن والكآبة والبكاء، ونتذكر مقولة ابن القيم رحمه الله بأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم ويضر بالإرادة ولا شيء احب إلى الشيطان من حزن المؤمن.
فقلت: وهل أفهم من هذا أن نتوقف عن البكاء ولا نتعامل معه أبداً؟
فقالت النفس: البكاء هو تعبير عن الشعور بكل عفوية وهو حاجة طبيعية وانفعالات نفسية ينفس المرء من خلالها الكثير من متاعبه وهمومه واحزانه ويساعد الجسد على التخلص من السموم الناتجة عن التوتر ويطهر النفس من المشاعر السلبية، بل هو دليل على الذكاء العاطفي والشيطان يفرح إذا تحول هذا الحزن الى مظاهر جنونية واعتراض على قضاء الله وقدره.
ولم أفق وأنا مستغرق في تلك الهواجس وهذا الحوار الخاطف مع النفس الا على جلبة تلك الجموع المقبلة من بوابة المقبرة وهي تحمل على اكتافها ضيفاً اخر غادر الحياة وامتطى صهوة الموت وعاد من رحلة الحياة القصيرة إلى منزله الحقيقي، وعلى ذاك الصوت المرتفع بينهم وهو يردد (وحدوه)..(وحدوه) فيأتيه الرد من الآخرين خلفه وبصوت جماعي واحد {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، (سبحان الحي الذي لا يموت) ليتملك النفس ساعتها نوع من الخضوع والسكينة.
هون عليك مصائر الد
نيا تكن سبلاً فجاجا
لا تضجرن بضيقة
يوماً فإن لها انفراجا
لقد تنادت في داخلي تلك الصور والوقفات مع النفس وتراصفت الكلمات والهواجس وأنا اتذكر واستحضر أسماء من فقدناهم في اواخر شهر شعبان ورمضان وأوائل أيام شهر شوال الجاري وفجعنا برحيلهم عنا من الرجال والسيدات والشباب والشابات من ابناء قبيلة العمارين بميسان بني الحارث رحمهم الله جميعاً واسكنهم فسيح الجنان.
فقد فجعنا برحيل ابنة الاخ الكريم عبدالعزيز بن سعيد الصاهلي العمراني رحمها الله وهي لازلت في ربيع شبابها بعد معاناة مع المرض لم تمهلها طويلاً، وبعد ما بذله والدها من جهود وطلب حثيث لعلاجها داخل الوطن وخارجه ولكنها ارادة الله ولا راد لقدر الله وقضائه.
يا روح فلتبكي افيضي بالبكاء
فإنهم لا يملكون سماعي
رحلوا وبعد الليل ليس بمنجلي
عني وبعد الصبح ليس بساع
رحلوا وبعد القلب رهن جراحه
في لجة من آهة ونزاعي
رحلوا أفيضي بالبكاء فإنهم
كسروا ببعد رحيلهم اضلاعي
كما ودع الأخ حامد بن زيد العمراني الحارثي ايضاً ابنته الشابة وهي ايضاً في ريعان شبابها رحمها الله والهم والديها الصبر والسلوان على فقدها وعوضهم خيراً في رحيلها، وخالص العزاء والمواساة لأسرة آل زيد بن علي العمراني.
ولم نكد نفق من احزاننا تلك حتى فوجئنا برحيل زوجة ابن العم المربي الفاضل الأستاذ حمدان بن خليفة العمراني الحارثي بعد معاناة طويلة مع المرض رحمها الله، وله ولأسرته الكريمة اقدم اصدق التعازي في وفاة رفيقة دربه وانيسة حياته، جعل الله ما اصابها من مرض وداء مكفراً مطهراً لها من ادران الدنيا وقائداً لها إلى جنات الخلد والنعيم.
فراق الاحبة داء دخيل
ويوم الرحيل لنفس رحيل
سمعت ببينك فاعتادني
غليل بقلبي وحزن طويل
أهذا ولم يك يوم الفراق
فإن كان لا كان زاد الغليل
وايقنت اني به تالف
وما قد وصفت عليه دليل
حياة الخليل حضور الخليل
ويفنى إذا غاب عنه الخليل
ثم فجعنا برحيل ابنة المربي القدير الراحل الأستاذ سعد بن سراج العمراني الحارثي رحمه الله، ولأسرته من ذوي سراج بن خلف الله وعائلة البنيان اتقدم لهم بصادق العزاء والمواساة في وفاة ابنتهم الغالية واخص بالذات والدتها الكريمة الفاضلة واخوانها المهندس ماجد ومازن ومحمد واخوالها من ذوي زريب الحارثي سائلاً المولى عز وجل أن يكتب لهم اجزل الأجر والثواب في مصابهم الاليم.
ما بالهم رحلوا بغير وداع
تركوا فؤادي في يد الاوجاع
رحلوا وفكوا قيد حزني والجوى
إن صرت وحدي سيئ الاطباع
ويح الفؤاد وقد فقدت شموسهم
وعبيرهم يا روح لست تطاع
وفجعنا ايضاً بوفاة ورحيل الابن الوحيد للخالة العزيزة عبدالعزيز بن عواض الحارثي الذي تألمنا كثيراً لرحيله في ثاني ايام عيد الفطر المبارك اثر مرض عضال لازمه طويلاً سائلاً الله عز وجل ان يعوضها عن فقده بأخواته الكريمات وان يجزل لها المثوبة لاحتسابها وايمانها الكبير على فقده يوم وداعه وصبرها وجلدها الكبير على متابعة مرضه وزوجها منذ أكثر من (32) عاماً حتى رحيله رحمه الله إلى رحاب ارحم الرحمين وأكرم الأكرمين.
يوم الفراق لقد خلقت طويلا
لم تبق لي جلداً ولا معقولا
لو جاء مرتاد المنية لم يجد
الا الفراق على النفوس دليلا
قالوا الرحيل فما شككت بأنها
نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
كما فجعنا برحيل العم سعد بن دخيل الله الصاهلي العمراني الحارثي بعد مرض عضال لم يمهله طويلاً رحمه الله وهو من عرفناه بحسن خلقه وطيبته الكبيرة وسيرته الحسنة، واتقدم بخالص العزاء والمواساة لذوي الراحل في فقيدهم الغالي واخص بالعزاء كل من اخوانه الأعزاء العم عقاب بن دخيل الله، والعم عواض بن دخيل الله، والمربي الأستاذ عبدالعزيز بن دخيل الله وابناء الراحل وفي مقدمتهم الابن يزيد وابناء عمومتهم وذوي عائلة الصهل كافة.
تعزوا بالتصبر عن اخيكم
فضجوا بالبكاء وودعوني
فلم ادع الأنين لقل سقمي
ولكني ضعفت من الأنين
صا صبر للحمام وان اتاني
والا فهو آت بعد حين
كما فجعنا برحيل ابنة الخال علي عوض الله العمراني الحارثي زوجة الأخ سعود ردة بن عواض العمراني الحارثي اثر مرض عضال رحمها الله، ولأسرة الخال العزيز وأسرة ردة بن عواض العمراني الحارثي وعائلة الخبارات جميعا اقدم لهم اصدق التعازي والمواساة في فقيدتهم الغالية تقبلها الله بقبول حسن.
وفي الختام لا أملك ازاء هؤلاء الراحلين والراحلات عن دنيانا إلى مستقر القرار الا أن نسأل الله لمن هو في جلاله عظيم وبعباده رحيم ولمن رجاه كريم أن يرحم كل من فقدناهم ويغفر لهم وأن يجمعنا بهم وآبائنا وامهاتنا وكل من فقدنا من قبل ومن بعد في جنات تجري من تحتها الانهار، حيث لا وادع فيها ولا فراق، ولا هم ولا حزن، وإنما نعيم مقيم وحياة الخلود، وصادق العزاء والمواساة لذويهم جبر الله قلوبهم، وامد الله في عمر من بقي منهم وكتب الشفاء لكل مريض والحمد لله حباً، والحمد لله شكراً، والحمد لله يوماً وشهراً وعمراً، والحمد لله في السراء والضراء، وعلى ما قضى و قدر وكتب وأمر، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.