د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
في الأعوام الأولى لعمله الرسميِّ بمعهد الإدارة العامة تلقى خطاب شكرٍ من المدير العام للمعهد حينها ففرح به إذ عادةُ المعهد السكوتُ إشارةً إلى الرضا، أما البوحُ فاستثناءٌ يُشير إلى استثناء، ولم تَطلْ فرحته فقد وجد الخطابَ نمطيًا متكررًا تلقاه جميعُ من عمل في مناسبة اليوبيل الفضي للمعهد، وكانوا بالعشرات، ففهم أنه أداءُ واجبٍ اقترحته إدارة العلاقات فرمى الخطابَ غيرَ عابئٍ به، وحين وصله خطابُ شكرٍ آخرُ من المدير العام نفسه - بعد ذلك ببضعة أعوام - زهت نفسه إذ كان خاصًا به لعملٍ لم يشاركه فيه سواه، وما يزال محتفظًا به ضمن أوراقه الأثيرة.
** أيقن أن للشكر صورتين؛ أدائيةً بالإيماء، ووفائيةً بالانتماء، ويرى الأولى نهجًا يمكنُ تقديرُه، وفي الأخرى احتفاءً يجبُ ارتداؤُه، والمسافة بين الجائز والواجب كالمسافة بين الحيادِ والانقياد، أو بين ما نرتاده حبًا وما نرتضيه مسايرة.
** في الأيام الماضية ابتدأ في العمل على جمع ما كُتب عنه من أبحاث ودراساتٍ ومقالاتٍ صدرت أو نُشرت وقت عمله الصحفي، وفيها ثلاثُ رسائل ماجستير، ومجموعةٌ من الأوراق البحثية، وعددٌ من المقالات التأصيلية، ووجد نفسه أمام كمٍ كبيرٍ تجاوز مئة ألف كلمة وسيشغل - لو نشره - كتابًا ضخمًا، غير أن ما استقبله - بعد إعلان استقالته ونأيه عن إدارة تحرير الشؤون الثقافية في الجزيرة- تخطَّى كلَّ حدٍ تخيّله، حتى لم يعدْ قادرًا على الإحاطة به لولا عونُ صديقٍ كريمٍ تبنى جمعَه وتوثيقه.
** استعاد مقالًا كتبه للثقافية (محمود درويش)، حين اختصصناه بملفٍ ثقافي، وتساءل فيه: «هل أنا حيٌ ولم أنتبهْ؟!»، فهل يكون ذاك بالرغم من أنه وقَّتَ لاستقالته إجازةَ العيد قرب نهاية شهر رمضان مقدرًا أن تمرَّ عابرةً لا يُلتفتُ إليها، وكما عاشَ في الظلِّ زمنَ الأضواء فقد أراد أن يبقى فيه زمنَ الانطفاء، ومنْ يحسب الشمس فيئًا فقد وهم، ومن يتكئ على إشارات الأصابع فستخطئه مشاعر القلوب، وما كلُّ من اتكأَ على الشكل بقادرٍ على أن يرسمَ المعنى.
** أودع العددَ الأخيرَ الذي أشرف عليه في «المجلة الثقافية»، وحمل الرقم 721 زميله المخرج كي يتابعَ اللمسات الأخيرةَ في الإجازة والتصحيح والمونتاج، واعتاد أن يصله العددُ بصورته النهائيةِ بعد عصر الخميس ليبثَّه وسط مجموعاتٍ ثقافيةٍ منتقاةٍ قبل المغرب، لكنَّ ذلك العدد تأخر فوق الساعة فاتصل مستفسرًا، وقيل له: لقد أُضيف مقالٌ جديد بقلم رئيس التحرير، ووُضع مكان اللوحة التي عُرفت «الثقافيةُ» بتصديرها في واجهة كل عدد، ولم يسألْ عن فحوى المقالة أو سببها؛ فللأستاذ - كما يُصطلحُ على الإيماء إليه - ما يراه، وليس أمامه سوى مزيد انتظار.
** بلغه العددُ بعد الإفطار، فاتجه للصفحة الأولى ليُفاجأَ بمقالٍ لن ينساه، ولن يختلط بسواه، موقعًا «بقلم خالد المالك»، ومعنونًا: (ومنْ مثلُ الدكتور إبراهيم التركي؟!)
** يستعيدُ فواصل المقال ولن يُعيدَه، وإن رآه ملخصَ سيرة، ومرفأَ مسيرة، ووجد في كلماته إيقاعَ عملٍ، ومنطلقَ أملٍ، وكما «لا يذهبُ العُرف» فلن يزيدَ الوصف، وكيف لتاجٍ أن تُقلَّهُ حروفٌ، أو تفسرَه ظروف، أو ترتحلَ به مفرداتٌ.
** بعد صلاة تراويح اليوم نفسه في العشرين من رمضان بعث رسالةً هاتفيةً للأستاذ، هذا نصُّها:
(فاجأتني الكلمة الوفية المضيئة.. أعرفُ نبلك وأقدرُ فضلك، وإذ أغلقتُ «الثقافيةَ» بشكل فقد صدرت زاهيةً مزهوةً بكلماتك التي ستبقى أيقونةَ محبةٍ وصداقةٍ وأثرٍ وإيثار)
ووصله الردُ مباشرًا:
(والله إن الكلمات لتعجز عن أن تفيَ بما تستحق، أثرُك واضحٌ ونبلك محفوظ، وما تركتَه من فراغ لن يملأَه غيرك وإن حاولنا، المهم أن تتواصل ولا تنقطع عن القراء ولو في فتراتٍ متقطعةٍ ودون التزام)
** أراح ذهنه، وليس بدنَه، على أقربِ أريكةٍ، واطمأنَّ إلى جمال الوداع والاستيداع، وأيقن أنه قد ابتدأَ رحلةَ الاسترخاء ليلتفتَ إلى بعضِ ما أجّله، وكثيرٍ مما قصّر فيه، ولكنَّ العدد - بعدما انتشر، وفيه كلمة الأستاذ ومقالة صاحبكم: «الإمضاء الأخير؛ أستودعكم الله» - أشعل هاتفه وبريدَه، وملأ تغريدات «تويتر»، ورسائل الـ»فيسبوك»، ولقطات «سناب شات»، وأشغل كلماتٍ نُشرتْ وأخرى لم تنتشرْ حتى شكَّ أنه المعنيُّ، وأوشك أن يُحوّرَ عنوان محمود درويش ليصير: «هل متُّ ولم أنتبهْ؟!»
** لم يقف الأمر هنا فقد استقبل صاحبكم الراغبُ في الصمت والاختفاء مهاتفةً من محافظ مدينته الأستاذ الحفيّ عبدالرحمن السُّلَيم ليُعلمَه لا ليستأذنَه بتنظيم تكريمٍ مشهود له ثانيَ أيام العيد بمشاركة المحافظة ولجنة الأهالي وجمعية مراسم للإعلام والعلاقات وجمعية تقدير للأعمال التطوعية، ولن يُطيلَ في تفصيل النقاش، وهجيراه اعتذارُه الحازم، لكنَّ الكرامَ يَفرضون ولا يُرفضون، ولم يكفهم أن منحوه «قلادة عنيزة الذهبية» وبراءتها وخطاب منحها التي لم تُعطَ قبله - كما أبلغه المحافظ - إلا لرمزٍ وجاهيٍ واحد يتفق الجميعُ على ريادته، ومعها لوحةٌ تذكارية من جمعية مراسم ضمت صورًا له ومقاله الأول والأخير.
** اكتفى بكلمةٍ ألقاها عن سني عمره السبع عشرة الأولى التي قضاها كاملةً في مدينته قبل انتقاله إلى الرياض للدراسة فالعمل ثم الإقامة، وعزا ألقَ وقوفه بين الجمع الكبير رجالًا وسيداتٍ إليهم، وكان عنوانها: (فلمنْ يُعزى الفضل؟!)
** تكررت المفاجأةُ في الحفل نفسه حين حضر الأستاذُ أبو بشار من الرياض إلى عنيزة ليشهد التكريم فقط إذ عاد في ليلته مثبتًا أنَّ من قالوا: إن خالد المالك صانعُ التغيير والتأثير في المدرسة الصحفية السعودية لم يعْدوا الحقيقة، ولعلَّ كِتابًا يوثقُ جهود «الأستاذ» ودوره الكبير في تخريج الكبار لا يتأخرُ أكثر.
** أبلغه الأستاذ أنَّ الجزيرة ستكرمُه فاعتذر، وإذ لم يقبلْ الاعتذار فقد استمهله وقتًا لما بعد الصيف، واقترح أن تُخصصَ المناسبةُ لدراسة مسار الجزيرة الثقافي؛ فالنصُّ أهمُّ من الشخص، والمؤسسةُ أبقى من الفرد، ويأمُل أن يستجيب.
** وفي وقتِ أصداء نأيه وصله خطاب تذكيرٍ بوعدٍ سوَّفه طويلًا لشهود أمسيةٍ تكريميةٍ له، ولم يُتحْ له الصديق الكريم الدكتور المحامي محمد المشوّح سبيلًا ولو للتأجيل؛ فقد حدّد الموعدَ الذي حظيَ بحضورٍ نوعيٍ كثيفٍ تَصدَّره - مرةً أخرى - الأستاذ القدير خالد المالك، وتحدث فيه بشفافيةٍ بليغةٍ، مثلما طوقه جمالُ المنتدين وجمائلُهم، وتداخل فيه الدكاترة والأساتذة: محمد المشوح (قدم له درع الثلوثية) وعلي الخضيري وعائض الردادي وعبدالله الحيدري وفهد العليان ومحمد الجلواح (جاء من الأحساء للمناسبة وأهداه درعًا أنيقًا) وعبدالعزيز المقوشي، وفهد الربيق (أهداه لوحة جميلة) ومحمود عمار، واختتمها القريبُ الأريبُ الأستاذ إبراهيم التركي (أبو قصي) بشيلةٍ لطيفةٍ، وأدارها الدكتور سعد النفيسة، ووثقها بصفحته «السنابية» الجميلة الصديق فهد التميمي، وكانت كل مداخلةٍ أشبهَ بمحاضرةٍ أضفت وأضافت.
** ويبقى الاستفهام الأهم؛ فكيف يشكر المئات الذين كتبوا، والذين حضروا، ومن حاضروا، وكيف يشكر الصديق الأستاذ حمد القاضي الذي ترك ارتباطًا أُسريًا في الرياض ليشهد احتفالية تكريم عنيزة، والأستاذ الدكتور إبراهيم الشمسان الذي قدم للمناسبة نفسها من أجله، والأستاذة منيرة الخميري التي قدّمت له درعًا خاصًا، وآخرين لا يحصرهم، وعشراتٍ لا يعرفهم، ولن يستطيعَ مكافأتهم؟ لا سبيل غيرُ دعاء صادق في جوف الليل لكلِّ واحدٍ وواحدةٍ فيهم.
** وأخيرًا فالحدثُ - بزواياه المتعددة - أكبرُ من توقعاته، وأعلى من أمنياته، وبقي فيما يقوله بضعُ نقاط:
الأولى: دعاؤه اللهَ سبحانه أن يكون فيما ناله من عنايةٍ رضًا منه تعالى، وتأكيدٌ لسلامة نهجه وصدقِ اجتهاداته خلال مراحل عمله.
الثانية: سعادتُه إذ قُرن تكريمُه بتكريم ذوَيْ الفضل الأولِ والأخير عليه؛ والده (عبدالرحمن بن علي التركي العمرو) رحمه الله، ووالدته (موضي بنت صالح العبدالعزيز الرعوجي) - حفظها الله.
الثالثة: ولاؤه التامُ لمؤسسة الجزيرة؛ إدارةً وتحريرًا، وسيظلُّ أحدَ مستشاريها، بل وكُتَّابها متى وجد لديه ما يستحقُ النشر.
الرابعة: شكره لمن دعاه إلى تكريم، مباشرةً أو عبر وسيط، مؤكدًا أنه لن ينأى عن المشهد الثقافي العام، وتحديدًا ما يخصُّ الندوات والملتقيات والحوارات، وسوف يستمر نشطًا -بعون الله- في الوسائط الرقمية التي اصطفاها نائيةَ به عن المظهريةِ والتظاهر، والجدل والتجاذب.
** أما بعد؛ فقد رُوي عن التابعي الجليل أبي تميمة طريف بن مجالد -رحمه الله- حين سُئل: كيف أصبحت؟ أجاب: «بين نعمتين لا أدري أيهما أفضل؟ ذنوبٍ سترها الله عليَّ فلا يستطيع أن يعيَّرني بها أحد، ومودةٍ قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي».
** أيها الشكرُ لا تقفْ.