د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في فترة ليست قليلة من القرن الرابع الهجري، وجزء آخر من القرن الخامس الهجري، كان هناك تزامن غريب للدولتين العباسية في المشرق والأموية في الأندلس، حيث فقد حكام العالم الإسلامي في ذلك الوقت سلطتهم الحقيقية، وانتقلت السلطة بصورة واضحة وجلية إلى حكام يحكمون باسم الخليفة العباسي والأموي، مع بقاء الحكم الصوري قائماً، وفي ظني أن ذلك التزامن لم يكن مقصوداً أو مرتباً له، لكنها الأقدار تسير بالمراكب حيثما أراد الله.
لو تتبعنا ما كان يحدث في المشرق الإسلامي قبل ذلك الوقت بقليل، لوجدنا أن تغيراً فلسفياً وثقافياً وأيضاً اجتماعياً، قد حدث في المجتمع وفي السلطة، وقد أصبحت الساحة متاحة لترجمة الثقافات اليونانية والفارسية وغيرها، وقد أثّر ذلك على الثقافة الإسلامية التي كانت قائمة، فقد كان هناك مزيج رائع من الثقافات التي ذاع صيتها في العالم أجمع، سواء في الشرق أو الغرب، وكلنا نعلم أن هارون الرشيد، ومن بعده ابنه المأمون، قد حرصا على الترجمة، ونقل العلوم الأخرى كما أن المأمون ووالدته فارسية قد قرب الفرس، وسيطر الفكر المعتزلي، وظهرت فكرة خلق القرآن وهي فكرة جدلية لا طائل منها، وفي الجيش والمناصب العليا كان الصراع بين العرب، والفرس أخوال المأمون الذين قرَّبهم، وقبل وفاة المأمون، رأى في أخيه المعتصم كفاية للحفاظ على الدولة العباسية ليس بسبب ثقافته، فهو لم يكن مثقفاً، وإنما بما يتحلَّى به من شجاعة وقدرة على اتخاذ القرار، إضافة إلى بنيته الجسمية الكبيرة التي ساعدته كما يقولون على قدراته الأخرى الخاصة بشكل لافت للنظر، ويبدو أن رأيه في الاختيار كان حكيماً في الحفاظ على الدولة.
وجد المعتصم منافسة شديدة بين العرب والفرس وخشي أن ذلك قد يؤثِّر على الدولة العباسية، فما كان منه إلا قرب أخواله من العنصر التركي، بدأت ملامح تغير كبير في قيادة البلاد تلوح في الأفق، وأصبح هناك ثلاثة عناصر رئيسية العرب والفرس والترك، وكانت المنافسة بينهم كبيرة، لكن السيادة في زمن المعتصم كانت أكثر من العنصر التركي، بسبب كونهم أخوال الخليفة، استمر الحال على ذلك من بعده في عهد ابنه الواثق وأخذت الأجناس الأخرى غير العربية تأخذ نصيباً لا بأس به من السلطة وبعد مقتل الخليفة المتوكل أصبحت الفرصة سانحة للعنصرين الفارسي والتركي أن تقلّد حكم المشرق الإسلامي باسم الخليفة العباسي، وكان ذلك واضحاً وجلياً بعد مقتل الخليفة المتوكل.
بعد ذلك ظهر آل بويه في فارس، وامتد سلطانهم إلى أبعد من ذلك، ثم ما لبث أن قدموا إلى بغداد واستطاعوا أيضاً السيطرة عليها، وإبعاد العنصر التركي الذي كان هناك مع ضعف واضح في العنصر العربي في ذلك الوقت، وأضحت السلطة المطلقة لهم، لكنهم أبقوا العباسيين يحكمون رمزياً كخلفاء حتى يتم القبول من المجتمع، ثم استطاع العنصر التركي القفز إلى السلطة من خلال السلجوقيين.
ومصر كان العبيديون سادتها وضموا إليها الحرمين الشريفين، والشام، وصقلية، وإفريقيا، وفي المغرب الأوسط والأدنى استطاع الصنهاجيون تولي الحكم باسم العبيديين.
كان التزامن بين أوضاع الخلافة العباسية في المشرق، والتي سبق الإشارة مماثلة لتلك السائدة في الأندلس، فبعد وفاة الخليفة الأشهر في الأندلس، وهو عبد الرحمن الناصر، الذي حكم خمسين عاماً خلفه ابنه المستنصر، المحب للعلم والثقافة، والتي أصبحت الأندلس في ظل حكمه أشهر منارة للعلم في العالم، لكن حب والده له منعه من الزواج حتى توفي والده، فتزوج بسيدة بافاريه اسمها صبح البافارية، وأنجبت منه ولداً اسمه هشام المؤيد، وكان خاملاً قليل العقل، ومع ذلك فقد ولاه أبوه قبل وفاته، لفرط محبته له، وتأثير زوجته، مما مهّد لنهاية الدولة الأموية وقيام دول الطوائف، وبعد وفاة المستنصر استطاع محمد بن أبي عامر أن يتولى الحكم الفعلي في الأندلس، وأن يتخلّص من الوزير المصحفي الذي خدمة وقدمه إلى القصر، وتولى مقاليد الحكم فعلياً باسم الحاجب المنصور، وأصبح يحكم باسم الخليفة الأموي، تماماً كما هو في المشرق خليفة صوري يحكم الآخرين باسمه، إلا أن ابن أبي عامر عربي يمني معافري قحطاني النسب، حكم من بعده ابنه عبدالملك، ثم ابنه عبدالرحمن الملقب بشنقول، وأمه ابنة سانشو ملك نافارا، عدو الدولة الأموية، وكانت أمه تلقبه شنجول أي سانشو الصغير، وعلى يده تبدد الحكم الأموي.
وهكذا كانت أحداث متماثلة في طرفي الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، يحكم كل طرف، واحد من أسرتين عربيتين شامختين متنافستين منذ العصر الجاهلي، تكون في زمن معين في أضعف حال وتُدار باسمهم من الآخرين، فسبحان الله مدبر الكون، ومسيّر الأيام.