د.شريف بن محمد الأتربي
بعد مرور 3 مواسم من مسلسل الاختيار الذي يتناول حقبة زمنية مهمة في تاريخ مصر، في ظل ما كان يُسمى بالربيع العربي، والذي اقتنع الجميع أخيرًا أنه كان الإعصار العربي الذي لولا الله تعالى ما أبقى ولا وذر خيرًا على أرض مصر والدول العربية إلا واقتلعه من جذوره تحت عباءة التغيير، وحقيقته التدمير.
وعلاقتي بمسلسل الاختيار بدأت منذ عام 1984م حين التحقت بجامعة القاهرة للدراسة في علم المكتبات والمعلومات، وذلك بعد جولة قصيرة في جامعة عين شمس، ولكل من هذه الجولات حكايات تروى ليس محلها هذا المقال. بدأت التردد على الجامعة وكان سبقني إليها أخي الأكبر خالد، مما مهد لي تكوين بعض الصداقات وعدم الإحساس بالغربة، فتعرفت على صديق العمر الأستاذ خالد حسن صبري (الشهير بخالد عيد)، وهو من أندر الرجال وأطيبهم معدناً، ومعه ومن عنده بدأت تتوثّق علاقتي بالجامعة ومن فيها، فقد كانت مجموعة خالد تضم الكثير والكثير من الإخوة والأخوات التي استمرت صداقتنا وأخوتنا بهم حتى الآن ولله الحمد، وتوالت من بعده الصداقات مع الكثير والكثير ممن هم الآن من صفوة المجتمع، وخلال هذه الفترة وجدت الجامعة قد انقسمت إلى قسمين: أحدهما الناس البسطاء أمثالنا مجموعة خالد صبري وأسرة 2000 الجامعية بكل أعضائها، والثاني أصحاب التشدد والتوجه الإسلامي بكل أطيافهم، والذين تُرك لهم الحبل على الغارب (مصطلح مصري يدل على عدم التقيد بحد معين) في كافة مجالات الحياة وبخاصة الجامعات بعد مقتل الرئيس السادات -رحمه الله - وفي بداية عهد الرئيس مبارك -رحمه الله وغفر له.
لم تكن علاقتي مع السياسة آنذاك قوية، بل لم تكن تتجاوز قراءة الأخبار في الجرائد، وخلال بداية الحياة الجامعية؛ وبعد فترة ليست طويلة من الوقت زادت معرفتي بالطرف الآخر من المعادلة الجامعية، وهم الجماعات الإسلامية المتشددة، وخاصة في حال الحاجة إلى دعم تعليمي في أي مادة من المواد، فقد كانت هذه الجماعات تعمل بكل جد ومن خلال تجنيد كل شبابها لاستقطاب الشباب الجدد في الجامعة من خلال هذه الخدمات، وتذكرت أني في عام 1981م كنت جالساً أمام التلفاز أشاهد العرض العسكري بمناسبة نصر 6 أكتوبر ورأيت بأم عيني اغتيال الرئيس محمد أنور السادات -رحمه الله - وكيف تغيّرت الحياة بعده وأيضاً كيف تغلغلت الجماعات الإسلامية داخل المجتمع المصري تحت ذريعة مساعدة الفقراء وتوفير المواد الغذائية والرعاية الطبية والمساعدات المادية لهم مما أثّر في نفوس الكثيرين منهم فانضموا لهذه الجماعات التي كان ظاهرها الإنسانية وباطنها إرهابية مقيتة.
حاول بعض أنصار هذه الجماعات استقطابي معهم وكدت أركن إليهم وكانت البداية بضرورة إطلاق اللحية وترك الملابس الإفرنجية من البنطال الجينز وغيره، والعودة إلى ما أظهروا لي أنه ملبس الصحابة الأوائل، واقتنعت بالفكرة وذهبت إلى المنزل وقابلت أمي -رحمها الله - وقلت لها احتاج إلى نقود لشراء ملابس المسلمين وأني سألتزم وأطلق اللحية، فضحكت وقالت لي كلمة لن أنساها ما حييت: الإسلام ليس لحية ولا ثوب، الإسلام عمل ظاهر للناس ومقصده الله تعالى، وروت لي الكثير من القصص عن هؤلاء الذين اتخذوا مظهرهم وسيلة لخداع الناس وإقناعهم أن مفاتيح الجنة في أيديهم وأن من ليس معهم فهو في النار وللأسف ما نال أتباعهم إلا كل شر، وتمتعوا هم بما جنوه من أموال ومزايا.
راجعت كلمات أمي واستوعبتها، وكان الاختيار البعد عن هذه الجماعات تماماً، وفي نفس الوقت بدأت أنظر إليهم نظرة أخرى نظرة دراسة سلوكياتهم بعمق، فهم يستغلون فقر الطلاب ويقومون بتصوير المذكرات الدراسية للمواد وبيعها بقروش قليلة، ويستضيفون المغتربين ويوفرون لهم المأكل والمشرب، وفي نفس الوقت يحرّمون عليهم الاختلاط بالآخرين في الجامعة أو مجالستهم، في حين يحلونه لأنفسهم وثبت ذلك خلال رحلات الأسر الجامعية إلى مدن مصر المختلفة، وكلما تعمقت في دراستهم اكتشفت سطحية تفكيرهم وأن هذه الهيئة التي هم عليها، والتي تبدو من ظاهرها إسلامية وهي غير ذلك، وأن العلم يجري بين أيديهم كما يجري الماء في النهر اكتشف أنهم فارغون لا علم ولا دين وأن هناك من يمسك بالريموت كنترول ويحركهم كيفما شاء، وكل واحد منهم يحركه من أعلى منه رتبة حتى اكتشفت في النهاية صاحب الريموت الأول مرشد الجماعة والذي يسيطر على كل المقاليد ويدير الأمور كما هو يرى، وحسب الهوى من أجل الوصول للحكم، فخلطوا بين الإسلام والسياسة حتى صنفوا الناس أعضاء الجماعة وهم المسلمون الحق، وباقي المجتمع إما كفار أو ملاحدة أو نصارى، وكل هؤلاء هم غنيمة لهم. واتضح ذلك بشدة خلال أحداث الأمن المركزي عام 1986م حين حاولت هذه الثلة المارقة استغلال تمرد بعض جنود الأمن المركزي في الانقلاب على الرئيس مبارك -رحمه الله - ولولا ستر الله تعالى لضاعت مصر خلال هذه الأحداث.
وتخرَّجت من الجامعة وبدأت ممارسة عملي فيها وأعمال أخرى ليأتي عام 1990م، ويبدأ الإرهاب في ضرب كل ربوع مصر وخلال هذه الفترة فقدت مصر؛ وفقدت أنا الكثير من الأصدقاء الذين تخرّجوا من كلية الشرطة دفعة 1988م، وهي الدفعة التي انتقاها بنفسه وزير الداخلية آنذاك اللواء أحمد رشدي -رحمه الله - شباب مثل الورد يقتلون من أجل ماذا؟ من أجل تحقيق حلم رجل كفّر الشعب كله، من أجل سيد قطب الذي استقطب بعض الفارغين لسماع أفكاره الضالة.
وبعد عقود من الزمن أراد الله سبحانه وتعالى أن يكشف زيف هذه الجماعة ويتسلّموا حكم مصر، وخلال عام واحد فقط فضحهم الله على الملأ، وكشف زيف منهجهم وتوجهم، وتتخلّص مصر من شرهم ويتبعها أغلب الدول العربية لأعرف كم كانت أمي -رحمها الله - محقة في الاختيار وكم كان هناك من المغفلين الذين ظنوا أنهم هم الأخيار.
إن ظاهرة الاستقطاب التي انتهجتها هذه الجماعات لا تزال موجودة حتى وقتنا الحالي، خاصة مع تنامي مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية التي تبث سمومها بعيداً عن أعين الآباء والأمهات، ليجدوا في النهاية أبناءهم قد أصبحوا فريسة سهلة، ولقمة سائغة في يد هذه الثلة الفاسدة المتأسلمة، فالحذر كل الحذر أن نترك لهم أبناءنا يفسدون أفكارهم ويخرجونهم من إسلامنا الوسطي إلى إسلامهم التفجيري.